هذا المقال بقلم شمس الدين النقاز، صحفي وباحث في الجماعات الاسلامية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة وجهة رأي CNN. حكومات متعاقبة جمع بينها الفشل وتميّزت بالعجز والتقصير، هكذا أصبح حال تونس بعد 14 من يناير، تونس الّتي ألهبت مشاعر الملايين المضطهدين والمظلومين للخروج والتعبير عن رفضهم بأعلى أصواتهم أن لا للظلم ولا للقهر ولا للدكتاتورية بعد اليوم. تونس الّتي وقف العظماء والخبراء محتارين أمام انتفاضة شعبها العفوية والعقلانيّة ووقف كبار الساسة يصفّقون لانتفاضة شعبها ضدّ دكتاتورية الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، فهذه الانتفاضة لا أحزاب قادوها ولا جمعيات ومنظمات نظموها، ولكن مافيات متغلغلة في دواليب الدولة اختطفوها وعذّبوها وأفقدوها رونقها وجمالها وأفرغوها من محتواها وغيّروا مبناها ومعناها. في تونس بعد 14 من يناير، لم تكن حكومة الحبيب الصيد بمفردها المسؤولة عن الوضع الكارثي والمأساوي الذي تعيشه البلاد، فالغلاء قد أثقل كاهن المواطن، والظلم بلغ مراتب قياسية على جميع المستويات، وتغيير الحقائق وقلب المعطيات وسيطرة المافيات على أغلب مفاصل الدولة، عجّل بإفقاد مواطنيها إحساس التمتع بجمال البلاد والتمتع برونق الحياة البسيطة. سيرحل رئيس الحكومة الحبيب الصيد بعد أيام، وسيترك خلفه وزيرا جديدا أحدث اختياره ضجّة في البلاد، ولكن مع رحيل الصيد يكاد يجمع المتابعون أن لا شيء سيتغيّر مادامت الشفافية مفقودة وأيادي المفسدين للإفساد ممدودة بينما أيادي الراغبين في الإصلاح مغلولة. قبل أسبوعين، وتحديدا في جلسة الاستماع التي عقدها البرلمان التونسي للنظر في سحب الثقة من رئيس الحكومة، انتظرت الغالبية العظمى من التونسيين من الصيد أن يكشف الحقائق للشعب التونسي وأن يسمي الأمور بمسمياتها، فالأحاديث الجانبية عن الفساد قد صمّت آذاننا وروائح المؤامرات التي يتمّ نسجها من قبل رموز الثورة المضادّة قد أزكمت أنوفنا التي تعوّدت على شمّ النتانة السياسية طوال أكثر من 5 سنوات منذ 4 يناير، لكن الصيد لم يستغلّ تلك اللحظة المفصلية والفارقة أما نفسه وأمام الشعب، فرفض كشف الحقيقة وخيّر أن لا يطفئ الحريقة الّتي أشعلها تصريحه القنبلة "استقيل ولا انمرمدوك". في تونس وبعد أن رحل بن علي، لم ينجح أحد في الحكم بلا استثناء، فلا الإسلاميون كانوا رجال المرحلة ولا الأزلام الّذين عادوا لحكم البلاد والمسك بزمام الأمور اليوم تمكّنوا من إرجاع البلاد إلى مسارها الطبيعي الّذي أصبح استرجاعه في نظر البعض ضربا من الخيال، وبين هذا وذاك، عجز "المستقلّون" هم الآخرون عن النجاح وتميّزت فترة حكمهم بالفشل الذريع على كلّ المستويات. ليس غريبا أن يصل الأمر إلى ما وصل إليه الآن، وربما يظن البعض ممن يقرأ هذا المقال أن كاتبه يهوّل ويصوّر صورة قاتمة لا تمتّ للواقع بصلة عن الأوضاع في تونس، ولكن يقسم كاتب هذه السطور الأيمان الغلاظ أنّ ما يقوله هو جزأ بسيط من الحقيقة التي يقرّ بها كلّ من سكن تونس "الجريحة" والتي لا يكاد جرحها يندمل حتّى يأتي سياسي آخر ويفقعه. أن نعترف ونصارح أنفسنا بأن البلاد تمرّ بوضع سياسي متأزم وحاضر مخيف ومستقبل مجهول، ليس تهويلا بقدر ما هو إقرار بخطورة الأوضاع ومحاولة منا لنكون شهود حق لا شهود زور خاصّة وأنّنا أمام أكبر محاولة لقلب للحقائق وتغيير للمفاهيم تعرفها البلاد، فمعظم وسائل الإعلام المحليّة لا تقوم بدورها بسبب الأجندات التي تعمل لصالحها، ولا السياسيون لهم الجرأة في مصارحة الشعب المغلوب على أمره بحقيقة ما يحدث، خاصة أن ما يحدث لا يجهله أصغر مسؤول في الحكومات السبع التي جاءت تباعا فما بالك بوزير أو محافظ. لقد أصبحت البلاد حلبة صراع بين قوى نافذة في أجهزة الدولة، بيدها الحل والربط، حتّى أنّ أكبر المنظمات الحقوقية والنقابية في تونس أطلقت صيحة فزع، وأعلنتها مدوّية "تونس في طريقا للتحول إلى دولة مافيوزيّة"، وإن كان هذا الكلام صادرا عن مسؤول مطّلع على ملفات الفساد، فليس لنا وقتها إلا التسليم والإذعان لما قاله السيد شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، الّذي استشرى في البلاد. هذا الفساد الّذي أصبح ظاهرا للعيان، عجزت عن محاربته وفتح ملفاته 7 حكومات متعاقبة جاءت بعد 14 يناير، كلّف ميزانية الدولة المنهكة آلاف المليارات خلال السنوات الأخيرة، فالتهريب والتهرّب الضريبي بلغ ذروته، والفساد المستشري في المؤسسات الإدارية والأجهزة الأمنية بفضل العمل النقابي هو الآخر قد قطع شوطا كبيرا، حتّى أنّ المواطن المظلوم بقدرة قادر يصبح ظالما بفضل مبدأ "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" الّذي يتمّ تطبيقه إلى حدّ الآن. لم يقف الأمر هنا، فقد أصبح المواطن التونسي غنيّا كان أم فقيرا اليوم، عرضة للتحيّل حتّى في المستشفيات العمومية والمصحات الخاصّة، فمؤخرا تم اكتشاف تركيب بعض المستشفيات والمصحات للوالب قلبية منتهية الصلوحية لبعض مرضى القلب، بالإضافة إلى تخدير المرضى بمخدّر (بنج) فاسد منتهي الصلوحية. أما على المستوى الأمني، فقد ظلّ بعض الأمنيين يعيشون في الزمن الماضي، فزيارة سريعة إلى بعض مراكز الإيقاف كما أكّد ذلك ناشطون حقوقيون ومحامون، كفيلة باكتشاف حجم الفظاعات التي لاتزال تمارس خلف الأبواب المغلقة، ناهيك عن المعاملة خلف الأبواب المفتوحة في بعض الإدارات التابعة لوزارة الداخلية التونسية، حتّى أنّ استخراج بطاقة هوية أو جواز سفر في بعض المراكز الأمنية أصبح وسيلة يستغلّها بعض الأمنيين لإذلال المواطنين واستعبادهم. من جهة أخرى وفي سياق متّصل، قرّر بعض الأمنيين الّذين تحوم حولهم شبهات كبيرة، أن ينتقموا من بعض القضاة وضرب المرفق القضائي لتحقيق منافع شخصيّة، فقد قرّر أحدهم المتاجرة بفتاة قاصر لم تتجاوز 17 للإيقاع بقضاة وتصويرهم في أوضاع مخلّة ومن ثمّ ابتزازهم بالصور والفيديوهات الملتقطة لتصفية حسابات وتسوية ملفّات كانوا قد اختلفوا عليها مسبقا، ورغم فعلتهم الشنيعة لم تتحرّك أجهزة الدولة لتطبيق القانون ولكن تحرّكت وسائل الإعلام للدفاع عنهم وعن فعلتهم الدنيئة. إنّ ذكرنا لعيّنات من هذا الفساد المستشري في تونس بعد 14 يناير، ليس فقط سردا لمعلومات مجرّدة امتلأت بها وسائل الإعلام المحليّة، بقدر ما هو محاولة منا لتوثيق جزء من هذا الإجرام الّذي قذف بالبلاد في مستنقع من الأزمات عجزت الحكومات المتعاقبة على حلّها، فرغم أنّ تونس تعتبر مثالا يمكن الاقتداء به لعدد من البلدان النامية في مجال التشريعات القانونية الكثيرة والمتشعّبة، إلّا أنّ أغلب هذه التشريعات إذا ما أضفنا إليها الهيئات المختصّة بقيت حبرا على ورق وحبيسة مكاتبها ولم يتيسّر لها التفعيل والتطبيق على أرض الواقع. في نهاية المقال، لا يمكننا تفويت الفرصة لنؤكّد على أنّ الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ أشهر، لم تكن نتيجة خلافات إدارية بين وزير ورئيس حكومة ومن فوقه رئيس دولة فقط، بقدر ما هي نتيجة عجز عن التغيير والإصلاح بسبب تغلغل مافيات الفساد داخل كلّ أجهزة الدولة بلا استثناء، فنحن نتحمّل جزءا كبيرا من هذه الأزمة السياسية التي تمرّ بها تونس لأننا كلّنا فاسدون مثلما قال المرحوم أحمد زكي.