×
محافظة المنطقة الشرقية

وفد الحكومة السودانية المفاوض فى اديس ابابا يعود للخرطوم بعد فشل جولة المفاوضات

صورة الخبر

كاميرا ما تهدف إليه هذه الحروف، تدوير زوايا الكاميرا كي نرى أشياء أخرى في غزة المحاصرة. تريد أن تقول إن دفق الحياة أقوى من كل الحصارات. وأن جمالها أجمل من بشاعة السياسة التي لوّثت هواءها، وأبقى من كل من لا يفك أسرارها. من يصالح غزة يتحول إلى جزء من رمالها، من يخاصمها ولا يهتم بها ترسله إلى متحف قصر الباشا. ما تريد هذه الحروف رفع زاوية النظر والإطلالة على غزة من فوق كي نرى المشهد جميلاً بكامله، بعيداً من التفاصيل الصغيرة والعابرة والممضة. المشهد العريض هو الذي يبقى، وتمر التفاصيل. في روايته المبدعة «فريدوم» (Freedom)، ينحاز الروائي الأميركي الأكثر مبيعاً جوناثان فرانزن، إلى الزاوية العريضة في تأمل الأشياء، مخالفاً هوساً روائياً سيطر على فن الرواية في العقود الأخيرة، الغلبة فيه للتفاصيل الصغيرة. كل من النظرتين، العريضة والتفصيلية، لا تغني عن الأخرى، بل تتكاملان. من ينهكه النظر في الشجرة وأغصانها، يغيب عنه اتساع الغابة وتعقيدها. ومن لا يرى إلا الغابة وامتداد حدودها، لا يفقه أهمية الشجرة وأخواتها في تشكيل الغابة نفسها.   غزة ... ولد في السادسة يركض كالرمح حافي القدمين. من الأمام يحمل الـ «تي شيرت» إشارة اليونيسيف، وعلى ظهره إسم اللاعب الأرجنتيني الساحر «ميسي» ورقمه في الفريق الكتالوني. رجونا الولد أن نأخذ معه صورة، فلم يتردد. منح الكاميرا ابتسامة ثرية باتساع البسيطة. تساءل زملاء أجانب «من أين يأتي بكل هذا الفرح؟». كان ذلك في مخيم الشاطئ في غزة، حيث كان الولد يدوس الحصار بقدميه العاريتين. من بحثوا عن الحصار، وجدوا إرادة ولد يتفجر حيوية أكبر من الكون. «من أي يأتي بكل هذا الفرح؟»، الجواب يأتي من صوب البحر الراسي في نهاية الزقاق، على بعد رمية حارس مرمى: من يملك البحر يملك أولاداً يفرحون ويدوسون الحصار بأقدامهم العارية. لم يقرأ الولد، ربما، تميمة محمود درويش «هذا البحر لي، هذا الهواء الرطب لي»، لكن كأن الكلمات تلك نبتت في الأرض، قبل أن تنبت بين أصابع الشاعر. كان ذلك في مخيم الشاطئ ... ... المدينة ذات البحر لا يحاصرها اليتم. البحر يمنحها أفقاً تحسدها عليه المدن المحاصرة باليابسة. يصل شطها الموج الهادئ بدلال غيداء تطلع من الغيب، فتفتح لها الأكوان كل البوابات. يتكسّر الموج الصاخب على شطها، رماح أعداء صدها هواء الرمل. مدن البحر لا تحاصر. في استدارة بحر المدينة وغموضه تكمن أسرار كثيرة. وفي عيون صياديها صلابة ورقة وغيب يخبئ الكثير ولا يكشف سوى القليل. عكس ذلك هي مدن اليابسة، تختلف، وفيها الشيء وضده. الجبلية منها تحضنها التلال، لكن تحاصرها وتكاد تخنقها. السهلة منها مفتوحة على الأفق، وعلى الغزاة أيضاً. هل يكتمل جمال مدينة ما من دون بحر؟ الجليل ... يشير إلينا: هذان هما «ثديا فلسطين» جبل الطويل (أو الجليل الأعلى) وجبل عداثر، تسمية قديمة من عهود حضارات مرت على هذه الجبال وشواطئها. كان بحارة سفن الرومان خلال قرون ماضية وعند توجّههم إلى ساحل عكا، يرون وهم في عرض البحر البعيد أول ما يرون هذين الجبلين منتصبين في أفق الترحاب، مشدودين إلى السماء، عذراوين يدوخان البحارة شوقاً، فيصوّبون مقدمة سفنهم لتأوي في غموض اللازورد الرائق بين الجبلين حيث بوصلة الأمان. يواصلون إبحارهم باطمئنان إلى دقة المسير، مقدمة السفن تناغش البحر نحو نهاية راسية في المرفأ النشط. كانت هذه البلاد، يضيف العرّاف، تحتضن القادمين من البحر إلى السهل بلا حدود، كريمة وغنية، ولم يغرس أحد في بحرها أو قريباً من شطها حراباً تصدُّ القادمين. تمازحنا جميعاً لنأخذ صورة تذكار نتوسط فيها ثديي فلسطين خلفنا: وقفنا للصورة،... كليكْ، فبانت وراء الصورة ألوف السفن تصعد كلا الجبلين، صفوفاً لا نهاية لآخرها، ولا تاريخ لأولها. ... على الجانب الآخر للحدود، هناك قرى الراس الأحمر ومارون الراس في الجنوب اللبناني. هنا الناس وتاريخهم ما كانوا يعرفون هذه الحدود. كان خبز الطوابين يرحل ساخناً بين فجر العجين على يمين الحد وظهيرة غداء الزعتر على يساره، الزعتر ذاته الذي استلذ به العرّاف على مائدة فطور الناس الطيبين في «البقيعة». كانت سلوى مخُّول، تلميذة العرّاف في معهد المعلمين في حيفا في سنين ماضية، قد أفاضت بكرم صباحي تعاهد على إشباعنا من هناك وحتى الجولان. وكان حليم مخُّول، زوجها ومحامي القرية، يقطر رعاية وأدباً حلواً خجل منه مربى المشمش المتكئ باختيال بين صفائح الجبنة وعناقيد عنب الضحى. ... نتعجب من هذا العرّاف الذي يعرف دلال كل شجيرة هنا ومتى وأين يناغي الريحُ أفنانها. لمّا يمد يده لمصافحة غصن ماً يدور براحة يده ببطء حول الغصن ويحتضنه رويداً رويداً، كأنما لا يريد إجفاله بإمساك مفاجئ. هذا شجر الزعرور يُعمل منه حلوى قمر الدين، وهذه الشجرة التي جذعها أحمر تُسمى شجرة قاتل أبيه، فعند جذعها، كما تقول الأسطورة الفلسطينية، أمسك الولد أباه الذي خطب حبيبته فسال من رأس الوالد دم أحمر خضب جذع الشجرة وظل من يومها ملوناً بالدم ومنعوتاً بالأسطورة.   بيت لحم ... الفتاة الصغيرة بالشعر المربوط خلف رأسها المتوج بالشبر الأحمر، تجبر الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح على الوقوف ووجهه إلى الجدار، فيما يداها تومئان بحركات تفتيش في ملابسه وجسده. براءتها تشلّ وحشيته، وتقلب الصورة. الشبر الأحمر يبطل مفعول الرشاش السريع الطلقات المتكئ على الجدار. الحمامة البيضاء التي تحمل في منقارها غصن زيتون وتطير فوق الجدار في مدينة نبي السلام في بيت لحم، تلبس سترة واقية من الرصاص. لكن على سترة الرصاص نرى دائرة الهدف تخرج منها أربعة خطوط مستقيمة في الاتجاهات الأربعة، نراها كأنما ننظر من منظار قناص يريد قتل الحمامة. فأر مرسوم على جدار متعامد مع جدار الفصل يقف مختبئاً على خلفيتيه ويحمل مقلاعاً ويتربص بالجدار كله. مركبة تجر دبابة معطوبة إلى لا عنوان. ... فوق اللوحات المرسومة على الجدار وفي الأبراج المجاورة التي هي جزء من الجدار أيضاً، هناك رشاشات إسرائيلية خرساء فقدت مفعولها أمام جبروت الريشة. ماذا تفعل الرصاصة باللون الأرجواني، وكيف تقتله؟ هل تخترقه، هل في إمكانها إطاحته الأرض؟ التلاحمة يتأملون الجداريات ويأخذون الصور بجانبها. فتاة تلتقط صورة لصديقتها وهي تركل رسم الجندي الذي يسأل الحمار هويته. يرى الناس أنفسهم في الأشكال المرسومة على الجدار، ثم يلتقطون صوراً لأنفسهم بجانب أنفسهم. عندما يلمع فلاش الكاميرا تظهر العذراء في ساحة المهد، وترش على الناس أيقوناتها. فلاش الكاميرا يرتد في عيون الرشاشات الخرساء، فيتدلى رصاصها من فوهاتها كصمغ مشلول ينصب على أقدام حامليها. يتجمدون أمام قداسة الريشة والفنان والنبية. تخلق الألوان حياة وفرحاً وبهجة على هذا الجانب من الجدار. فوق الجدار وفي قمة الأبراج، يصير التوتر حبالاً مشدودة، تهب ريح عصبية وتلف تلك الحبال حول أجساد حاملي الرشاشات وأعناقهم. لكن لا تشنقهم. كانت مريم تشير بيدها الى الريح أن لا تفعل. لا يهدر دم مقابل دم في ساحة المهد. لا العين بالعين ولا السن بالسن. هنا الريشة في وجه الرشاش والشبر الأحمر مقابل الرصاص. عندما يسيل الدم التلحمي هنا يصير نعنعاً وأنبياء. أما القاتلون فليس ثمة ظفر يحتفلون به، يصيرون أشباحاً سوداء تخنقهم رائحة رصاصهم.   الجولان منصة المسرح الكبير وخلفياته أقيمت من صناديق التفاح الخضراء البلاستيكية المُستخدمة. فيها يتكدس تفاح الجولان المقدس ويسافر إلى كل الاتجاهات. يُفاخر الجولانيون بأن تفاحهم هو الأشهى في العالم. كأن هذا الغناء الدافئ يطلع بطعم التفاح، تحتضنه الصناديق العالية ويسيل منها الآن ويختلط في مسرحها عرق الفلاحين والفلاحات مع عرق الدابكين والدابكات المترقرق في جباههم تحت نور نجوم صارت هي الأخرى ترقص ترنماً. أفراد الفرق والضيوف القادمون من فلسطين لا تستقبلهم فنادق، تستقبلهم بيوت بسيطة لناس يعشقون الشرفات. في المساء، يؤدون صلاة السهر عليها مع ضيوفهم، فيطلون على غموض ساحر في وديان نهاياتها بطن التاريخ. يُدهشون زائريهم بحكايا جدلتهم مع المكان ألوف السنين. من الشرفة العالية يشير ياسر بيده إلى اتجاه قلعة النمرود: هي هناك. بناها النمرود متحدياً ما في الغيب يوم قال له أتباعه إن هناك من هو أعظم منه. أعلن التحدي وبنى القلعة ليبارز ذلك العظيم بالسيف وفي منتصف المسافة. لما أنهى القلعة وصعد إلى أعلاها شاهراً سيفه، دخلت أنفه حشرة صغيرة طائرة وقضت عليه. يحب الجولانيون قصة النمرود. غرور جبروته هزمته حشرة. لا تهم صلابة القلاع. تتهاوى كبقايا قشة. كل جيوش الغزاة تزلزلها أساطير الفلاحين ومحاريثهم. يتندر لاقطو التفاح على العابرين الظانين بأنهم باقون. (من كتاب «حبر الشمس»، الصادر حديثاً عن دار «الأهلية» - عمان).     * كاتب وأكاديمي عربي