المرأة كان لها دور مهم وفعال في نسخ الكتب نسخا متقناً مجوداً، بل إن بعض الجواري اللاتي يتقن الخط والتزويق كان لهن أسعار عالية في سوق النخاسة وكان المنادي عليهن يقول: تجيد خط النسخ وخط التعليق وتجيد التوريق.. هذا العنوان لإبراهيم بن عبدالقادر المازني نشر قديماً، ثم نشر في مجلة الدوحة القطرية عام 1984م يحكي فيه المازني علاقة زوجته بمكتبته، وعلاقة المازني بهذه العلاقة. وحقيقة إن هذه المقالة لا تتحدث عن هذا الموضوع خصوصاً وإنما تتحدث عن شغف المازني بالقراءة. وشغف العقاد وعبد الرحمن شكري بها - وإن العقاد وشكري يفوقونه في ذلك - ثم أخذه الحديث كيف نسي زوجته في ليلة الدخلة بسبب دخوله لمكتبته، وتصفحه لكتاب، ثم انسجامه في قراءته ومن ثم نسيانه أمر عروسه في غرفة النوم، وبحثهم عنه في كل مكان إلى أن وجد في مكتبته. فقالت أم العروس: هذه الكتب أشد على ابنتي من ضرة. -إن هذه الحكاية يحكيها المازني للدلالة على مدى هوسه بالكتب ومدى تعلقه بها.- وسمع بعد ذلك المازني نفس الكلمة التي قالتها حماته من زوجته في جلسة صفاء. ونص إبراهيم بن عبدالقادر المازني يذكرني بنص سمعته عن إمام النحو سيبويه، جاء فيه إن سيبويه ابتاع جارية حسناء من سوق النخاسة. وانشغل عنها بتأليف كتاب مما أغاظ الجارية، التي انتهزت في أحد الأيام خروج سيدها لحاجة طرأت له، فألقت على مدونات سيدها الجمر فاحترق الكتاب الذي شغل به سيبويه عن الجارية ؛ فأخذ سيبويه الجارية الى السوق وباعها. وأنا أذكر انني سمعت عن سبب تطليق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني لزوجته الأولى -أم عبدالرحمن - هو إنها اختلفت معه فأحرقت إحدى مسودات كتبه التي كان يعمل عليها فطلقها. ومما مر بي في هذا الباب يذكر ابن أبي أصيبعة في كتاب - طبقات الأطباء - في ترجمة الأمير المبشر بن فاتك قال: محمود الدولة أبو المبشر بن فاتك الآمري من أعيان أمراء مصر، وأفاضل علمائها، دائم الاشتغال، محب للفضائل، والاجتماع بأهلها ومباحثهم، والانتفاع بما يقتبسه من جهتهم وكان ممن اجتمع به منهم، وأخذ عنه كثيراً من علوم الهيئة والعلوم الرياضية أبو محمد بن الحسن بن الهيثم، وكذلك أيضاً اجتمع بالشيخ أبي الحسين المعروف بابن الآمدي، وأخذ عنه كثيراً من العلوم الحكمية، واشتغل أيضاً بصناعة الطب، ولازم أبا الحسن علي بن رضوان الطبيب. وللمبشر بن فاتك تصانيف جليلة في المنطق وغيره من أجزاء الحكمة، وهي مشهورة فيما بين الحكماء وكان كثير الكتابة، وقد وجدت بخطه كتباً كثيرة من تصانيف المتقدمين، وكان المبشر بن فاتك قد اقتنى كتباً كثيرة جداً، وكثير منها يوجد وقد تغيرت ألوان الورق الذي له بعرق أصابه، وحدثني الشيخ سديد الدين المنطقي بمصر قال كان الأمير ابن فاتك محباً لتحصيل العلوم، وكانت له خزائن كتب، فكان في أكثر أوقاته إذا نزل من الركوب لا يفارقها، وليس له دأب إلا المطالعة والكتابة، ويرى أن ذلك أهم ما عنده، وكانت له زوجة كبيرة القدر أيضاً من أرباب الدولة فلما توفي، رحمه اللَّه، نهضت هي وجوار معها إلى خزائن كتبه، وفي قلبها من الكتب، وأنه كان يشتغل بها عنها، فجعلت تندبه، وفي أثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيرة في وسط الدار هي وجواريها، ثم شيلت الكتب بعد ذلك من الماء وقد غرق أكثرها، فهذا سبب أن كتب المبشر بن فاتك يوجد كثير منها وهو بهذه الحال. ومر بي في كتاب الأنساب للسمعاني قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن مخلد بن أبان الجوهري المحرمي المحتسب المعروف بابن المحرم، من أهل بغداد، كان أحد غلمان محمد بن جرير الطبري. حدث عن محمد بن يوسف بن الطباع وإبراهيم بن الهيثم البلدي وأبي إسماعيل الترمذي...وغيرهم. وقال محمد بن أبي الفوارس: كان يقال في كتبه أحاديث مناكير ولم يكن عندهم بذلك. وقال أبو بكر البرقاني: هو لا بأس به. وحكى أن ابن المحرم هذا تزوج امرأة، فلما حملت إليه جلس في بعض الأيام على العادة يكتب شيئاً والمحبرة بين يديه، فجاءت أم الزوجة وأخذت المحبرة فضربت بها الأرض وكسرتها وقالت: هذه شر على بنتي من ثلاث مئة ضرة. توفي ابن المحرم في شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وثلاث مئة، وكانت ولادته في سنة أربع وستين ومائتين. هذا ما نقل لنا من موقف المرأة من الكتب والثقافة وهو نقل غير منصف، فالمرأة كان لها دور مهم وفعال في نسخ الكتب نسخا متقناً مجوداً، بل إن بعض الجواري اللاتي يتقن الخط والتزويق كان لهن أسعار عالية في سوق النخاسة وكان المنادي عليهن يقول: تجيد خط النسخ وخط التعليق وتجيد التوريق، ويعني ذلك إنها مدربة على النسخ والتوريق لقد كان هناك في الحضارة الإسلامية نوع من المعاهد يتدرب بها الجواري على النسخ والوراقة والطبخ والغزل والحساب فليس كل الجواري مغنيات أو راقصات أو للفراش؛ بل هناك ما يشبه اليد العاملة من الجواري يتفاخر بهن من هن تحت يده فيهن من يمارسن النسيج والخياطة والنسخ والورقة إلى غير ذلك من مهن وكان الجواري الماهرات بتقنية معينة يرتفع سعرها حسب مهارتها، وكن أي الجواري ينفقن من كسب أيديهن على مواليهم، بل هن نوع من الاستثمار الذي يدر عائداً جيداً في بعض المجتمعات. المشكلة اننا لم يصور لنا الجواري والإماء إلا كونهن مغنيات وعازفات أو من يمتهن المهن الوضيعة مثل غسالة الملابس وما شابهها، والحقيقة إن الجواري عملن في مهن نقلن من خلالها ما كان في مجتمعاتهن الأصلية من حياكة وخياطة ونسيج وتطريز ومنمنمات لم يكن العرب ليعرفوها لولا الجواري الماهرات. إن الصورة النمطية عن الجواري والغلمان المماليك والتي ساهم الإعلام المعاصر في عصرنا الحديث شوهت حقيقة هذه الفئة ولعلنا نعود لذلك قريبا. naser.zaha@gmail.com