أفرزت الحروب الأهلية في العالم العربي مجموعة كبيرة من المفكرين الاستراتيجيين بمقاييس هذه الحرب وأدواتها اللغوية والسياسية. تستخدم هذه الطائفة من المفكرين شعارات «داعش» و»النصرة»، مع قليل من التحديث بإزالة عبارات مثل «انغمس الليوث في تجمع للكفار، وأبادوهم»، أو غيرها من العبارات الخاصة بالتنظيم والمستعارة من تراث لغوي بائس، مستبدلينها بعبارات أكثر حداثة وأكثر دلالة على ظلامية تفكيرهم وضحالة ثقافتهم السياسية. معظم هؤلاء خبراء استراتيجيون يتحدون كيسينجر وبريجنسكي وسوسلوف في سعة الاطلاع والتفكير والتنظير. يفسر هؤلاء التاريخ باعتباره صراع مذاهب وديانات. يقسمون العالم إلى فسطاطين، ما يدفعهم إلى إلغاء الاجتماع الإنساني وحركة المجتمع، في انسجامه وصراعاته وتطوره باعتباره المحرك الأساسي للتاريخ، أي إلغاء الشعب، بما هو مصدر السلطات ليصبح مجرد تجمع رعايا تابعين لقوة غيبية يمثلها جهلة يدفعونهم إلى الحروب من دون مساءلة. وتصبح الأوطان مجرد أرض خالية من أي لون سوى اللون الأسود الذي يلغي كل ما له علاقة بالتطور مهما كان بسيطاً، مثل الملابس والطعام وأماكن اللهو، والمدارس التي تعاد إلى عهد الكتاب، وإلغاء أي مادة في المناهج تدعو إلى التفكير، حتى لو كانت مادة علمية. ألغى «داعش» في الرقة والموصل الرياضيات والعلوم الطبيعية، وحكماً ألغى الفلسفة لأنها بدعة «وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، وهو يريد للجميع أن يدخلوا الجنة، باعتباره يملك مفاتيحها. المفتاح الأساس إبادة الآخر المختلف. نماذج هذا النوع من المفكرين كثيرة في العالم العربي، يكفي أن نورد بعضاً من تحليلهم لوضع الموصل: ينزع هؤلاء عن «أم الربيعين» انتماءها إلى العراق، ويرون إليها آخر مدينة سنية كبيرة، بعد طرد «داعش» من الرمادي وتكريت والفلوجة، ويجب أن تبقى كذلك كي تستطيع تمثيل الطائفة في الصراع على المحاصصة مع الأطراف الأخرى، ويقولون أن الأميركيين والأكراد والأتراك مع هذا التوجه كي يحدثوا توازناً على مستوى السلطة المركزية، فضلاً عن تهيئتها، بدعم من هذه الأطراف، لتكون عاصمة للإقليم الذي يتوقعون إعلانه بعد تحريرها، ويستشهدون بدعوة رئيس إقليم كردستان إلى التفاهم السياسي قبل خوض المعركة، مهدداً بمنع قواته من المشاركة في الحرب. وهو يعني بالتفاهم اقتطاع أجزاء كبيرة من محافظة نينوى، وضمها إلى كردستان، باعتبارها «أراضيَ متنازعاً عليها»، على ما جاء في دستور بريمر. هذا النوع من التحليل يصب في نهاية الأمر في طروحات «داعش»، وإن زعم أنه يتحدث عن الواقع الذي آل إليه العراق. ويشبه إلى حد بعيد طروحات «عصائب أهل الحق» التي خاضت وتخوض الحروب، دفاعاً عن المقامات، من دون أن يكون لديها أي تصور للحياة على أرض واحدة مع المذاهب والطوائف الأخرى. في المقابل، يؤخر الأميركيون معركة الموصل لأسباب مختلفة، وإن كانوا يزعمون حماية حلفائهم في «الحزب الإسلامي» وأبناء النجيفي والأكراد. من هذه الأسباب، أنهم يربطون المعركة بما يدور في سورية. حاولوا دعم مجموعاتهم السورية في هجوم على الرقة ليتسنى لهم السيطرة على جانبي الحدود وفرض شروطهم، لكن الهجوم فشل، ولم يكن أمامهم سوى تأخير تحرير الموصل إلى حين إنضاج الظروف، وتمهيد الأرض لتستقر قواتهم البرية (المستشارون) من دون إزعاج، وفي حساباتهم أيضاً قطع الطريق على أي تحالف عراقي - سوري في المستقبل. وهو تحالف كان ممنوعاً سابقاً أيام صدام، عندما كانت إيران الشاه ضده، وهو ممنوع اليوم كي لا يشكل جسراً بين إيران الخميني ودمشق وصولاً إلى لبنان و»حزب الله». للتذكير فقط. بعض المفكرين الذين أفرزتهم الحروب الأهلية العربية يبرر القتل والدمار والإبادة الجماعية بما حصل إبان الثورة الفرنسية والثورات الأوروبية الأخرى، ويستنتج أن مستقبلنا سيكون شبيهاً بحاضر القارة. لكنه ينسى أو يجهل أن ما حدث في فرنسا رافقته ثورة فكرية قادها فلاسفة أمثال مونتسكيو وديدارو، وتنظير فائق الأهمية لفصل الكنيسة عن السياسة، بينما تفرز ثوراتـ»نا» المزيد من فقهاء (بعضهم يزعم العلمانية) معادين لأي فكر متنور.