اللاجئة حياة * الطفلة الثالثة.. هل تراها؟ هل تستطيع رؤية الطفلة الثالثة في هذه الصورة؟! اقترب قليلاً ربما أكثر قليلاً بعد، أغمض عينيك ثم افتحهما بهدوء مرة أخرى، دقق النظر الآن! الصورة من مخيم الرحمن للاجئين السوريين* بمنطقة البقاع، لبنان هل مازلت بحاجة لبعض المساعدة؟ لا تقلق أنا هنا فقط لمساعدتك، اعبر قليلاً للأمام، انتبه لهذه القذيفة القادمة من هناك. اختبئ وراء هذا الجدار كي لا يراك هؤلاء المسلحون. ألق هذا الكتاب من يديك وتلك الوسادة! وهذا أيضاً، وتلك كذلك اترك كل أشيائك. نعم هكذا بلا شيء، هل مازلت لا تراها؟ أعطني يدك كي لا يقذفك هذا الانفجار بعيداً، أفلت يدي الآن واجر بأقصى ما تستطيع، إياك أن تنظر خلفك سيقتلوننا، اركض، اركض أكثر، اركض، أسرع، أفلت بأنفاسك المتقطعة، ابتعد عن ذلك البيت سينهار فوق رأسك، اقفز عالياً من تلك الرصاصة، اركض أسرع. ربما تراها الآن؟ هي أمامك مباشرة على الضفة الأخرى من الصورة! قليل من التفاصيل وكثير من الفراغات وعدد لا نهائي من ذكريات الوطن، المياه لا تأتيك بانتظام، والمطر يهطل مباشرة فوق رأسك دون أن يفكر في ما الذي قد يصيبك أنت النائم في العراء، الصيف يحرقك والشتاء يجمّد أطرافك والانتظار يأكل كل يوم قطعة من روحك. هكذا إذاً تعيش 4 سنوات متتالية من البحث، حسناً انظرإلى تلك الخيمة أمامك، نعم هي تلك الطفلة الواقفة هناك يعلو وجهها كثير من القلق، هل رأيتها الآن؟ الحقيقة أن الطفلة الثالثة تقف تماماً بعد آخر نقطة في كادر الصورة تتابع بشغف قلِق انتهائي من تصوير رفيقتيها حتى تستعيد مكانها في ذلك الفراغ في المنتصف. الحقيقة أيضاً أنها تريد التأكد أن أحداً منكم لن يراها فهي تراك جيداً وترى أطفالك حتى الذين لم تحملهم أماتهم إلى هذه الدنيا بعد. هي تراك جيداً منذ أن مرّت سنواتها الأربع الأخيرة، وهي تعيش في خيمة بأحد مخيمات اللاجئين السوريين بعد أن فرّت وأسرتها مما فررت أنت منه منذ قليل. هي تراك جيداً ولا تريدك أن تراها تعيش في مخيم بعد أن همست في أذني أنها أخبرت صديقاتها في المدرسة بأنها تعيش في منزل ولا تريدهم أن يعرفوا أنها تعيش في خيمة في مخيم لاجئين. هي تراك وتراني وترانا جميعاً ونحن نردد كلمة لاجئ وكلمة مخيم وكأننا بعيدين تماماً عن كل ذلك، وكأن هذه الطفلة قد ارتكبت ذنباً بمجيئها إلى هذه الدنيا في تلك المنطقة فأصبح لزاماً عليها أن تركض من القتل باتجاه الوصم. أصبح لزاماً عليها أن تتخلى طواعية عن مساحاتها كي لا تراها أو يراها أولادك فيصمونها بما لم تذنب فيه. أصبح لزاماً عليها أن تنسج كذبةً تداري بها خوفها من العالم ومن تلك المدرسة التي تحمل فيها اسم لاجئة ما دمنا لا نفعل شيئاً لوقف ذلك الوصم الاجتماعي المتوارث في مجتمعاتنا. انتهت الصورة وعادت الطفلة للعب لكنك لن تراها ما دمت لن تستطيع تجنيبها ذلك الذل الاجتماعي التي تعرفت عليه مبكراً بعد أن تعرفت جيداً على أبجديات الهرب ورائحة القتل ووجيعة الخذلان. * اللاجئة حياة هو مشروع تدوين صحفي مباشر، لنقل تجربة العيش لمدة شهر في مخيمات اللاجئين السوريين في كل من لبنان وتركيا واليونان عبر صفحة "الجزيرة مباشر". *اللاجئون السوريون في لبنان : يقدر عدد اللاجئين السوريين في لبنان بين مليون ومائتي ألف إلى مليون وخمسمائة ألف لاجئ وفق أخر تصريح لوزير الشؤون الاجتماعية اللبناني رشيد درباس يعيشون في 1300 مخيم للاجئين وفي مناطق أخرى خارج المخيمات