في لبنان، يمكن أي خبر إيجابي صادر عن المسؤولين السياسيين أن يفرح قلوب المواطنين، إذ يشعرهم بأنّ هناك من يلتفت إليهم ولا يزال يفكّر بهم في وقت تقفل الأبواب في وجوههم. وهذا ما شكّله أخيراً إعلان وزير الصحّة وائل أبو فاعور، عن رفع التغطية الاستشفائية لمن هم فوق 64 سنة من 85 إلى 100 في المئة، أي تغطية فارق الـ15 في المئة التي كان على المسنّ وأولاده أو أقاربه أن يدفعوها، ما يُعتبر مبلغاً لا يُستهان به وفق الفواتير الاستشفائية المعهودة. ولم يفرح هذا الخبر قلوب المسنّين فقط بل كلّ من يحيط بهم، لأنّه يترأف بفئة اجتماعية في أعزّ الحاجة الى من يحتضنها، ولو كان ترافق ذلك مع ردود أفعال سلبية كثيرة مرتبطة خصوصاً بطريقة تأمين الأموال لسدّ الفارق، إضافة إلى مطالبة المستشفيات المستمرة بدفع مستحقاتها التي وصلت إلى بليون دولار، وفق نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة الدكتور سليمان هارون، قبل القيام بمثل هذه الخطوة التي أطلق عليها وزير الصحّة عنوان «المغامرة» من الناحية المالية والإدارية، إذ تتطلّب مستوى عالياً من التنظيم كيلا تصبح الأمور خارجة عن السيطرة. هذه الخطوة التي يُنظر إليها كإنجاز كبير، ليست إلا حقاً بديهياً لكلّ مسنّ في لبنان أمضى عمره وهو يشقى ويتعب، وعندما بلغ سنّ التقاعد أي 64 سنة، وجد نفسه من دون تغطية صحية دائمة ومستقرة. والباب الوحيد أمامه هو الاستشفاء على حساب وزارة الصحة، وهذه حال 128 ألف لبناني تحديداً فوق سنّ التقاعد، في وقت يصل عدد اللبنانيين غير المشمولين بأي نظام تغطية إلى مليونين و121 ألف مواطن. فحالة الحاج مصطفى على سبيل المثل، تتطلّب الدخول أكثر من مرة إلى المستشفى بسبب معاناته من هشاشة العظام وتعرّضه لكسور في شكل مستمر. وفي كلّ مرة كان يضطر ابنه، الذي يبلغ راتبه الحدّ الأدنى للأجور فقط، أن يدفع فارق الفاتورة الاستشفائية أي 15 في المئة، وقد تراوحت دفعاته في كلّ مرة بين 400 و700 دولار. لكنّ المشكلة الأكبر تكون حين يصل الحاج مصطفى إلى المستشفى ليعلمه موظف الاستقبال أنّ المؤسسة لامست سقفها المالي المرتبط بوزارة الصحّة، ما يعني عدم قبولها أي مريض إضافي. وهنا تبدأ رحلة البحث عن مستشفى يستقبل المريض المسنّ الذي يئن من الألم، وهذا ما تحاول وزارة الصحّة التصدّي له أيضاً عبر رفع السقوف المالية للمستشفيات وتنظيم عمل المؤسسات الاستشفائية الحكومية التي يمكن فاتورتها أن تكون منخفضة أكثر من الخاصة. إلا أنّ المسيرة طويلة، وإقرار رفع التغطية الاستشفائية ليس إلا خطوة واحدة تتطلّب أخرى مساندة كثيرة كيلا تسقط في فخّ الفشل والفساد، خصوصاً أنّ اللبنانيين عايشوا سابقاً حلولاً موقتة سقطت مع الوقت وتغيّر الحكومات. وفي وقت فرح كثر بقرار وزارة الصحة الأخير، الذي يمكن أن يخفف الأعباء قليلاً عن ظهر اللبنانيين، وجده آخرون خطوة تخديرية للأوضاع الاجتماعية المتأزّمة، بينما المطلوب مشروع متكامل يحمي كلّ من عمل طوال حياته في لبنان ليصل إلى عمر التقاعد ويرتاح في أيامه الأخيرة مطمئناً أقلّه الى أنّ الضمان الاجتماعي يسدّد له نسبة مقبولة من قيمة الأدوية التي يدفعها والفحوصات المخبرية التي تُجرى خارج المستشفى، وهي كلّها ليست متاحة ضمن خطوة وزارة الصحّة التي تشمل الاستشفاء فقط. فكمال (67 سنة) لم يستطع أولاده أن يؤمّنوا له الضمان الصحّي بسبب عدم حصولهم على وظائف ثابتة، ومع ضعف رواتبهم يعدّ التأمين الخاص من المستحيلات أيضاً، لذا يجد نفسه أمام معضلة شهرية لتأمين الأدوية وثمن الفحوصات التي يجب أن يجريها. وفي حين يتمّ البحث عن حلول موقتة أو مجتزأة لمشكلة الطبابة والاستشفاء، تطرح تساؤلات عن الأسباب التي تعيق نظام التقاعد وضمان الشيخوخة الذي يشكّل محور حديث الخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين منذ 53 عاماً، أي منذ إنشاء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عام 1963. فأكثر الأمور غرابة في لبنان، أنّه عند بلوغ الشخص سن الـ64 تنتهي علاقته بالضمان الاجتماعي، أي في الفترة التي تزداد فيها حاجته إليه. وحتّى اليوم، لا يزال مشروع القانون الخاص بضمان الشيخوخة في الأدراج، وكلّ فترة يعاد إحياؤه ليدخل بعدها في سبات عميق، والقلق الأكبر أن يكتفي المسؤولون المعنيون بهذا الملف بالمعالجات السريعة التي لا تحقق الاستقرار الدائم، الذي يطمح إليه المسنّون واللبنانيون من مختلف الأعمار.