يسعى الروائيّ الإيطاليّ إيتالو كالفينو في روايته «الفيسكونت المشطور» (ترجمة معن مصطفى حسّون، الكلمة، دمشق) إلى تحريض أذهان قرّائه على تصوّر فكرة النقص كمَعبر للوصول إلى الكمال الإنسانيّ المنشود، وكيف يمكن فهم العالم والآخرين بشكل كامل في حالة النقص، وأنّ الشعور المتوهّم بالكمال فخّ للمرء، ثمّ يصف اختلاف الناس وحيرتهم ونظرتهم للخير والشرّ والفضيلة. يسرد كالفينو روايته على لسان ابن أخت الفيسكونت ميداردو، يختار الطفل الصغير راوياً لينقل مشاهداته وانطباعاته، ومحادثاته مع الكبار الذين يعاشرهم ويكون برفقتهم. يستهلّ بتصوير حالة الفيسكونت الشابّ ميداردو دي ترّالبا وهو يقصد أرض المعركة ليشارك في الحرب إلى جانب الإمبراطور ضدّ الأتراك، يمرّ بساحات شهدت معارك ضارية تشهد عليها جثث الأحصنة المبقورة البطون، والمتعفّنة، والمقابر الجماعية المنتشرة، وكذلك تحليق مستمرّ لأسراب الطيور المقتاتة على لحوم الجيف. الدوق الغرّ يفتقر إلى الحنكة، تدفعه حماسته إلى خطّ القتال الأماميّ، يظنّ أنّه سيغلب الجنود الأتراك بحماسته واندفاعه، يهاجم بسيفه المدافع المتحرّكة ساعياً لإنهاء عملها وتأثيرها في المعركة، فيقع في مرمى أحد المدافع الذي يشطره بقذيفة إلى نصفين. وهنا تبدأ حكاية فانتازيّة تنطلق من فكرة حياة الشطرين اللذين انشطر إليهما جسد ميداردو، وانقسامه بين شطريه، وذلك بعد مداواة ومعالجة كلّ شطر على حدة، بعيداً من الآخر، وسلكه سبيلاً مختلفاً لاكتشاف العالم من جديد. يُعاد الدوق المشطور إلى بلدته الصغيرة ترّالبا، تتغيّر نظرته إلى العالم المحيط به، يسعى إلى تقسيم كلّ ما يصادفه في طريقه إلى شطرين، يحاول صياغة الأشياء على شكله المشطور، تقول مربّيته سيباستيانا إنّ الشطر الشرير منه عاد إلى البلدة، وتراه يجول ناشراً الفظاعات الرهيبة وجالباً النحس والموت والتشويه، وكأنّه يصدّر تشويه جسده إلى العالم الخارجيّ، أو ينتقم من الجميع على ما حلّ به من تشويه. يحكم بالإعدام على رعاياه لأبسط الأسباب، يشطر الورود والأشجار والحيوانات إلى نصفين، يسمّم حياة الناس ويبثّ الذعر والتشويه في الأرجاء. يقتل ميداردو لمجرّد الشعور بلذّة القتل، ويكون في قتله المستمرّ مصدّراً للتشويه ومعمّماً إيّاه في مقاطعته، لا يستثني أحداً من ظلمه وإجرامه، فيأمر مثلاً بنقل مربّيته إلى بلدة المجذومين، وهناك تكون حياة أخرى غريبة مفعمة بالمفارقات، ذلك أنّ المجذومين يحيون حياة ملؤها الفساد والسكر والعربدة، يمكثون في بقعتهم الموبوءة بانتظار موتهم، يغرقون أنفسهم في الشراب يتناسون به مصابهم، وتكون لهم طريقتهم في إحكام أسوار قريتهم على أنفسهم والتعامل مع العالم الخارجيّ. الشطر الشرّير من ميداردو يقع في غرام فتاة قرويّة بسيطة اسمها باميللا، تتغيّر حالته إثر غرامه، يسعى للتقرّب منها بطريقته الخاصّة في الحبّ، يرسل لها رسائله التي تعتمد تشويه الطبيعة والحيوانات، يستعين بالغابة لتكون مسرح ولعه وشغفه وجنونه، يهمّ بالانتقام من والديها ليحرق قلبها عليهما، يكاد يشوّهها أيضاً لولا هربها منه إلى الغابة، ومساعدة الطفل لها في تخطّي رحلة اختبائها من خاله؛ أو من نصف خاله الشرّير. تكون المفاجأة التي تغمر البلدة ملاحظة تغيّر سلوكات ميداردو المشطور، يسعى إلى ترميم جراح الناس والتعاطف معهم، يهتمّ لأمرهم ويحاول افتداءهم، فيحارون في أمره، وينقسمون بدورهم في تأويل تعامله معهم. ليظهر بعد ذلك أنّ الشطر الآخر من جسد الفيسكونت أيضاً حيّ ووصل إلى البلدة بعد معاناة مديدة، وهو يقوم بمساعدة الناس ويخفّف عنهم، يتفهّم فزعهم وتوجّسهم منه. يكاد يثقل عليهم بعمل الخير الذي يقدّمه لهم. ثمّ يكون الانقسام البادي بين الشطرين؛ الأبتر الملقّب بالغرامو أرعن شرّير مدمّر، والأعسر طيّب خيّر مسالم. يحكي الطفل السارد كيف أنّ أحاسيس الناس تبدّلت وغدت باهتة الألوان، وأنّهم صاروا يشعرون بالضياع بين الشرّ والفضيلة اللذين أصبحا لا إنسانيّين بشكل متساوٍ. ويصف كيف يندفع المرء نحو نفسه وقد أشهر شطراه سيفهما بوجه آخره الذي هو جزء منه لا يكتمل من دونه. يحاول الراوي الصغير أن يبدو مهتمّاً بصيده كي يبقى بعيداً من سيف خاله البتّار، تهزّه كلماته بعنف، لم يجد مفرّاً من فورة التشطير السائدة على يد خاله. يكون مع الطبيب تريلاوني، وبيترو كيودو، وجماعة الأوغونوتي، والمجذومين، خاضعين لسطوة الرجل المشطور، غير قادرين على التحرّر من تلك السطوة. يستمع إلى خاله الذي يبلغه أنّه إذا رغب في شطر شيء كامل إلى نصفين ربّما استطاع أيّ شيء أن يخرج خارج كماله الساذج والبليد، ويفصح له أنّه عندما كان كاملاً كانت تبدو له الأشياء بأسرها طبيعيّة ومختلطة، بلهاء كالهواء، وكان يعتقد بأنّه يرى كلّ شيء، لكنّه في الحقيقة لم يكن سوى مظهر خارجيّ للأشياء. ويخبره كذلك أنّه إذا ما صادف وتبقّى له نصفه عندئذٍ سيهنّئه، لأنّه عندها سيدرك تلك الأشياء التي تقع في ما وراء ذكاء الدماغ الكامل، سيفقد آنذاك نصفه ونصف العالم، ولكن ذلك النصف الذي سيبقى سوف يكون أكثر عمقاً وثمناً بآلاف المرّات، كما أنّه سيرغب في أن يكون كلّ شيء مشطوراً وممزّقاً في تصوّره، ذلك أنّ الجمال والمعرفة والعدالة موجودة فقط في النصف المتبقّي. يلقي كالفينو الضوء في روايته على حياة فئات مختلفة من الناس في زمن الإمبراطوريّة، حيث جماعة دينيّة مختلفة مع الكنيسة تعيش منعزلة في منطقة نائية، لها طقوسها الخاصّة بدورها، كما يصف أحوال المصابين بالجذام وتعاطي المحيطين بهم معهم وإلقائهم في منطقة موبوءة في انتظار هلاكهم، دون أن يكون هناك مسعى للتخفيف عنهم أو مداواتهم ومعالجتهم، وبالتزامن مع ذلك يصف أحوال بعض الحِرفيّين والتناقض الذي يقعون فيه، فالنجّار الذي يصمّم أدوات التعذيب يؤدّي عمله بحِرفيّة عالية وهو يعلم أنّه يساهم في إيذاء الناس وتعذيبهم على يد الفيسكونت المشطور، لكنّه يمارس عمله بمتعة، وحين يطلب منه النصف الطيّب تصميم أدوات للترويح عن الناس يقع في حيرة من أمره ويكون عمله على محكّ المساءلة والمحاكمة الداخليّة. تكون ذروة الحبكة حين وقوع شطري ميداردو في غرام باميللا، وكلّ شطر ينشد وصلها والاستحواذ عليها بطريقته، في حين أنّها تبلغ كلّ واحد منهما على حدّة أنّها توافق على الزواج به، ويتقابل الشطران في الكنيسة، يتّفقان على المبارزة من أجل الظفر بها، يدمي كلّ منهما شطره الآخر في مبارزة عنيفة دامية، يقعان مدميّين يكاد يقضي عليهما النزف، وهنا يأتي دور الطبيب الإنكليزيّ الغريب الأطوار تريلاوني، يسعفهما، يعيد الشطرين إلى الجسد نفسه، وينتظر مدّة حتّى تلتئم الجراح، ويعود الدوق إلى الحياة بشطريه، يحمل ندبة الانشطار ووسمته، يتعامل باتّزان واعتدال مع الناس. لا يولي كالفينو الاهتمام لتفسير حياة الشطرين، وانقسام الروح بينهما، وتشظّي الجسد المبلبل، بل يرمز إلى انقسام مفترض بين الجسد والروح، ثمّ انقسامها بين الخير والشرّ، وكيف أنّ تكامل الإنسان يكمن في التوازن بين شطريه وتشييد عالمه بعيداً من سيادة الشرّ المطلق أو الخير المطلق، ويبرز أنّ التوازن يتمثّل في الحفاظ على معادلة الخير والشرّ ضمن حدود الإفادة للمجتمع والإنسان. يحمّل كاليفنو الطفل مهمّة إيصال جوهر رسالته الكامنة في البحث عن الإنسان الكامل سواء لدى السلَف أو الخلَف. يقول الراوي في الختام هكذا عاد خالي إنساناً كاملاً. لم يكن شرّيراً ولا خيّراً. وإنّما مزيج من الخير والشرّ، أي أنّه في الظاهر لم يكن يشبه ذلك الإنسان الذي شطر في البداية، لكنّه إنسان جديد خبِر معنى الخير والشرّ، وعاش جزءيهما. ويذكر أنّ حياة المحيطين به تغيّرت نحو الأفضل، وربّما كانوا ينتظرون أن يعود الفيسكونت إنساناً كاملاً لكي يحسّوا بحلاوة حياتهم أيضاً وبالسعادة الرائعة. لكنّه ينوّه إلى أنّه لم يعد يكفي أن يعود الفيسكونت كاملاً بمفرده، ذلك أنّ الأمل معقود على عودة العالم كلّه إلى مثل هذا الكمال.