الذين يؤمِّلون الناس بما هو ليس مضمونا، ثم يقرنونه بالوطنية، إنما يصنعون حبا مشروطا للوطن، ستكون نتيجته كارثية إن لم يتحقق، فأبسط الناس يعرف أن الدفاع عن الوطن لا يجب أن يخضع لأي شرط يجب التأكيد أولاً على أن البنوك السعودية ليس لها دور يذكر في مجال التنمية وخدمة المجتمع، ولعلي لا أبالغ حين أقول إن دورها بالمقارنة مع التسهيلات الممنوحة لها من قبل الدولة يساوي صفراً، على الرغم مما تحققه من أرباح مليارية دأبت على حصدها من عرق الناس وجهدهم وحاجتهم مستقوية بمؤسسة النقد والهيئات الشرعية. ومن هذا المنطلق فإني أعتقد أن فايز المالكي قد أفلح من حيث إشغال البنوك بمطالباته المتكررة لها بالشراكة المجتمعية، وتذكيرها بما يجب أن تلتزم به إزاء المجتمع، لكنه قد أخفق من حيث التوقيت والجهة المستهدفة؛ ففي أوقات الأزمات والحروب يكون الوضع مختلفاً تماماً، فالمالكي من وجهة نظري قد ارتكب خطأً فادحاً حين أدخل جنودنا البواسل في مطالبات جدلية، وأمَّلهم فيما هو غير مؤكد ولا يقدر على تحقيقه، بل شتت انتباههم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى التركيز والانتباه، فهو قد صوَّر تضحياتهم المقدمة من أجل الوطن على أنها مشروطة، ولذلك ظهرت مقاطع أحرجتنا بوجود محبَطين انساقوا خلف تلك المناشدة، فأخذوا يجردون فواتير مديونياتهم على الجبهة، وانتشرت الشائعات المتعلقة بهذه القضية، إلى درجة أن وزارة الحرس الوطني اضطرت قبل يومين إلى نفي شائعة مفادها صدور توجيهات بصرف راتب شهرين للمشاركين في عاصفة الحزم وإعادة الأمل!. كما أن أي مطالبة إنسانية يجب أن تقوم على أساس منطقي وعادل، ومن المفترَض أن تكون محسوبة ومراعية للظرف الاستثنائي الذي يعيشه البلد، وهذا ما لم يتحقق في مناشدة المالكي، فهؤلاء الجنود اقترضوا بمحض إرادتهم ودون إكراه من أحد، ومع اعترافنا بوجود بنوك لئيمة بشكل عام، إلا أنها غير ملزمة بإسقاط القروض عن أحد، كما أن أيَّ دعم للجيش من المفترض أن يشمل المقترضين وغير المقترضين، لكن تلك المناشدة قد أخذت بعين الاعتبار بعضهم فيما أهملت الباقين، ومن المتوقع أنه كلما زاد الأمل في إسقاط القروض تسبب ذلك في زيادة أعداد المقترضين ليستفيدوا من هذه المناشدة! وبذلك تتوسع دائرة المديونين لتشمل أكبر عدد من الإخوة المرابطين، ولكم أن تتخيلوا مشاعرهم فيما لو لم تستجب البنوك لهذه المناشدة! رغم محاولات الإنعاش التي تعرضت لها مناشدة المالكي من أكثر من جهة بهدف تحسينها، كمبادرة إنشاء صندوق للمرابطين، ودخول فضلاء على الخط دَعَوا إلى ما يشبه هذه المناشدة بمبادرة أكبر، إلا أني أرفض كل مناشدة من هذا النوع في هذا الوقت بالذات، لاعتقادي أن الذين يؤمِّلون الناس بما هو ليس مضموناً، ثم يقرنونه بالوطنية، إنما يصنعون حباً مشروطاً للوطن، ستكون نتيجته كارثية إن لم يتحقق، فأبسط الناس يعرف أن الدفاع عن الوطن لا يجب أن يخضع لأي قيد أو شرط، وهذا من المبادئ المفترض غرسها في النفوس، بدلاً من المقايضة بين الإنسان ووطنه، علاوة على أن هذه المناشدات غير مضمونة، وأكبر الظن أنها لن تتحقق، وحتى إن تحققت فلن تكون بالشكل الذي أمَّلوا به الناس، وقد ينتهي بها الحال إلى صندوق يكون نصيب الفرد الواحد منه لا يتعدى الألفي ريال!، وأعتقد أن الدولة تقدم للإخوة المرابطين في الجبهات أضعاف أضعاف هذا المبلغ من خلال ما يأتيهم من بدلات وغيرها، كما أنها لن تتأخر في مد يد العون لمن يحتاج منهم إلى مساعدة، لكن ذلك يحدث بصمت ودون ضجيج كما هو الغبار الذي يثيره بعض مشاهير التواصل الاجتماعي بنوايا طيبة أحياناً، وبغير ذلك أكثر الأحيان. وأنا مع محبتي وتقديري واحترامي للأخ فايز المالكي إلا أني أتمنى منه أن يبتعد عن هكذا مناشدات، وليعلم أن إدارة الحروب علم لا يقوم على أساس المحاولة والخطأ، فالحالة النفسية للجيوش واحدة من أهم عوامل الحسم في الحروب، لذا لا يجب أن يُدخِل نفسه فيما يجهله أو ليس من اختصاصه، وعليه أن يدرك أن هذه الاجتهادات الشخصية هي أقرب للمضرة منها إلى المنفعة، وهي إن كانت مقبولة في مجال الأعمال التطوعية والمدنية بشكل عام، فإنها تغدو غلطة كبرى حين تصبح تدخلاً في عمل جهة عسكرية ذات ظرف خاص وطابع خاص بما يُظهِر تلك الجهة أمام المنتسبين لها بمظهر غير المبالي بظروفهم، ففي حال الحروب ينبغي أن يُرفَع شعار الوطن وحده، ومن الواجب أن تُعزَز العقيدة القتالية للجنود بما يجعل من كل ألم شخصي يزول حين تنزل بالوطن نازلة، خصوصاً حين تكون التضحية من أجل أقدس بقاع الأرض، مهبط الوحي ومنبع الرسالة، والوطنية التي يأتي بها المال ستذهب بفقده، وقد جرت العادة أن يكون في كل جيش وحدة خاصة بالتوجيه المعنوي يديرها متخصصون في مجالات علم النفس والاجتماع والشؤون الدينية، وفي حال الجيش السعودي ربما يقوم بهذا الدور الإدارة العامة للشؤون الدينية، ولعل من واجبها أيضاً التصدي لمثل هذه المناشدات العشوائية، لما قد يترتب عليها من الإضرار بمعنويات الجنود وتشتيت انتباههم، كما أنها قد تُستَغل من قبل الأعداء في التأثير على الروح المعنوية للجنود، بتصوير أن الدولة مقصرة في تأمين احتياجاتهم، أو منحهم حقوقهم، كما فعل بعض المأجورين الذين دخلوا على الخط وعلَّقوا على الدعوة الأخيرة للتبرع للمرابطين في الحد الجنوبي!.