الشارقة: محمد أبو عرب أنتجت الثورة التكنولوجية المعاصرة، ووسائل الاتصال الحديثة، سلسلة من التغيرات على واقع الحركة الإبداعية، فمثلما صار الحديث عن الكتاب الإلكتروني وانتهاء عصر الورق شاغل الرأي العام العالمي، وحديث المثقفين، والصحف العالمية، أصابت هذه التغيرات مجمل الأجناس الإبداعية، فتأثر المسرح، والسينما، والفنون التشكيلية، وغيرها من أشكال الفعل الإبداعي. تنكشف أنماط التغير على الفعل الإبداعي وفق الإشتراطات والأنماط التقليدية التي عرفها تاريخياً، فإن ينتقل العرض المسرحي من الخشبة إلى شاشات الهواتف، يعد نقلة مغايرة تهدم الكثير من المفاهيم الراسخة حول الفعل المسرحي، وعندما تصبح كل عوالم الخيال العلمي في السينما مرسومة على الأجهزة اللوحية الفائقة السرعة، ومشغولة بتقنيات الشاشة الخضراء، فذلك أيضاً تحول نوعي لا يمكن إلا ملاحظته واستشراف مستقبله. الأمر ذاته ينطبق على واقع الحركة التشكيلية، ويتجلى في سلسلة من المسارات التي تجعل العمل الفني أحد أكثر الأجناس الإبداعية تأثراً بتجربة الاتصال الحديث والتطور التكنولوجي المتسارع، فلم يكن التأثر على صعيد المادة المستخدمة في الرسم، أو التقنيات الحديثة المساعدة على تكوين العمل الفني وحسب، وإنما امتد لأشكال التلقي، فلم تعد صالات العرض والمتاحف هي المركز الذي يقصده المعنيون لمشاهدة الأعمال الفنية، وإنما تحول هذا المكان إلى واقع افتراضي مطروح على شبكة الإنترنت، يمكن للمتصفح مشاهدة أحدث إنتاجات الفنانين على الشاشات الصغيرة، والإمعان في تفاصيلها بفضل الكاميرات والصور عالية الجودة. يظهر هذا التحول في الكثير من الشواهد العالمية، والعربية، والمحلية، فلا يمكن الحديث عن تأثر التطور التكنولوجي ومسار الحركة التشكيلية المعاصرة، من دون الوقوف عند نماذج لافتة في الحركة التشكيلية الإماراتية، إذ تماهت مع المتغيرات الجديدة بحيث انحرفت بعض التجارب الفنية عن مسارها التاريخي، وتغيرت أنماط التلقي الراسخة للعمل الفني، وحتى أنماط اقتناء الأعمال الفنية. تتعدد أشكال التأثر في الحالة التكنولوجية الحديثة، ووسائل التواصل المعاصرة، وتتجلى صورتها في نماذج في الحركة الشكيلية الإماراتية، فعلى صعيد الأثر الذي تركته التقنيات الحديثة على الفنان، تطل تجربة الفنانة فاطمة لوتاه كواحدة من الفنانات اللواتي شكلت التكنولوجيا الحديثة في تجربتها حالة انزياح واضحة، انعكست على تقنيات بناء اللوحة لديها، والخامات المستخدمة، وصولاً إلى انشغالات والموضوعات التي تطرحها. باتت لوتاه توظف أساليب من الرسم الرقمي لإحداث تأثيرات بصرية على أعمالها خاصة في تجربتها الأخيرة التي قدمت فيها سلسلة من البورتريهات التي تعكس الهوية والروح الإماراتية، إذ يكاد اللون كمادة يغيب عن الأعمال، ويظهر التأثير الرقمي المطبوع على قماش اللوحة. ليس ذلك وحسب، فالمتابع لتجربة لوتاه يجد أنها واحدة من الفنانات اللواتي خلقن مساحة من التواصل الاجتماعي مع المتابعين لأعمالها على مواقع التواصل الحديثة، فباتت صفحتها على فيس بوك أشبه بمعرض دائم تعرض فيه أعمالها الجديدة، وأحياناً تكشف عن تطور العمل الفني قبل الانتهاء. يفرض هذا التحول اشتراطات جديدة على الفعل الإبداعي التشكيلي، ويحتاج إلى جهود نقدية تتوقف عندها لتؤصل لمشوارها، فهي لم تعد مجرد مستقبليات أو تنبؤات، وإنما باتت واقعاً، بحيث يكاد يكون كل الفنانين المعاصرين في العالم العربي يملكون حسابات افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي، ويقدمون أعمالهم الفنية من خلالها. يثير هذا الواقع تساؤلات حول التحول الجاري على صالات العرض، فالمعاين لمجمل صالات العرض الكبيرة في المشهد التشكيلي الإماراتي، يجد أنه بات لها مواقع على الإنترنت تمكن الزائر من معرفة مواعيد المعارض، وتصفح أعمال المعارض الجارية بدقة، وحياة تكاد تتماثل مع الزيارة الحية للمعرض. يظهر هذا في العديد من الصالات المعروفة في المشهد المحلي، مثل أيام غاليري، وكاربون آرت، وغاليري ثايرد لاين، والسركال أفينيو، وغيرين آرت غاليري، وغيرها من صالات العرض الملتزمة، فما يمكن أن تحققه زيارة حية لهذه الدور بات متوفراً على مواقعها الإلكترونية، إذ يستخدم تقنيات الفيديو، والصور عالية الجودة، والصور المتحركة، وإمكانيات تكبير الصور وتصغيرها، مع معلومات تفصيلية على المواد المستخدمة في اللوحة وتاريخها ومعلومات عن الفنان. ليس ذلك وحده ما بات يحدث في العالم الافتراضي وعلى مواقع الإنترنت، فكذلك تجربة اقتناء الأعمال الفنية صارت إلكترونية بالكامل، بحيث توفر بعض صالات العرض إمكانية حجز الأعمال الفنية، ودفع أثمانها بالبطاقات البنكية من دون أن يتكلف المقتني أي جهد في معاينة العمل على أرض الواقع. يطرح هذا الواقع المتغير الجديد سلسلة من الاشتراطات والمتغيرات التي ينبغي دراستها في سياقات نقدية تواكب حالة التحول في مفهوم التلقي، والاقتناء، وحتى الرسم وبناء العمل الفني، فمجمل النظريات القائمة على مفاهيم التلقي وأصالة العمل الفني صار لزاماً إعادة النظر فيها، إذ في الفترة التي واجهت فيها اللوحة مد الصورة الفوتوغرافية، قدم الكثير من الدارسين أطروحات نقدية تستثني الصورة من جدارة العمل الفني، مستندين على اشتراطات الإبداع، وتدخل الذهن البشري وغيرها. اليوم لم يعد هذا الطرح مقبولاً في زمن تتماهى فيه الصورة مع اللون، وتغيب الألوان المادية لتتحول إلى إلكترونية، وينجز العمل على الشاشة الصغيرة، ليخرج مطبوعاً بالأحبار على القماش مع الطابعات العملاقة.