تغيير هوية المحكمة الدستورية في سياق تغيير هوية المحكمة الدستورية لتضم عناصر سياسية إلى جانب تشكيلها القضائي الحالي، تصديت في مقالي الأحد الماضي تحت عنوان "الشرعية الدستورية لها جناحان" لذلك، والذي قلت فيه إن الرقابة القضائية على دستورية القوانين هي أحد جناحي الشرعية الدستورية للقوانين، وهي رقابة لاحقة على العمل بها، أما الرقابة السياسية التي تمارسها السلطتان التشريعية والتنفيذية على القوانين، فهي الجناح الآخر لهذه الشرعية، وهي رقابة سابقة على العمل بها، لم يغفلها الدستور الكويتي، عندما نص على إنشاء المحكمة كجهة قضائية، وكنت قد تناولت الموضوع ذاته في مقالين لي نشرا على هذه الصفحة في عددي "الجريدة" الصادرين بتاريخ 12 و19 من الشهر الماضي، أولهما تحت عنوان "لماذا تغيير هوية المحكمة الدستورية بعد تجرية ناجحة" والثاني تحت عنوان "عندما استخدم الأمير سلطته الدستورية في رفض تغيير هوية المحكمة الدستورية". الاستشهاد بالمجلس الدستوري الفرنسي إلا أن جانبا من الفقه الكويتي الراغب في تعديل قانون المحكمة الدستورية، لتغيير الهوية القضائية للمحكمة الدستورية، لا يجد حرجا في الاستشهاد بالنموذج الفرنسي للرقابة السياسية على دستورية القوانين، من خلال المجلس الدستوري الذي يشكل طبقا لدستور فرنسا الحالي الصادر سنة 1958 من رؤساء الجمهورية السابقين وعضويتهم تكون مدى الحياة، وأعضاء مختارين عددهم تسعة يختارهم رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب (الجمعية الوطنية)، ورئيس مجلس الشيوخ (مجلس رئيس الجمهورية)، بواقع ثلاثة أعضاء لكل منهم، ومدة عضويتهم تسع سنوات، ويباشر المجلس رقابته الدستورية وجوباً على القوانين الأساسية قبل إصدارها، واللوائح البرلمانية قبل تطبيقها، ويمارسها كذلك على القوانين الأخرى التي يعرضها رئيس الجمهورية، أو الوزير الأول، أو رئيس أي من مجلسي البرلمان لإقرار مطابقتها للدستور. انتقاد نظام الرقابة الفرنسي وقد فات هذا الجانب من الفقه في الاستشهاد بالمجلس الدستوري في فرنسا ما تعرضت له هذه الرقابة في فرنسا وخارجها من انتقادات، ونذكر ما ذهب إليه أقطاب الفقه الدستوري في مصر ومنهم، د. الراحل محمد كامل ليلة الذي يرى أن الرقابة السياسية على دستورية القوانين، في ضوء الانتقادات التي اقترنت بها، لا تبعث على الثقة بقدرتها على أداء مهمتها، وقد منيت بالفشل في كثير من الأحيان، ولم تتمكن من ممارسة اختصاصها ودورها الضئيل (القانون الدستوري دار الفكر العربي. ص1970 ص131). كما يرى د. رمزي الشاعر أنها رقابة غير فعالة وقاصرة عن تحقيق الغرض المقصود منها، وهو المحافظة على مبدأ دستورية القوانين، وحماية الدستور من الخروج على أحكامه. (النظرية العامة للقانون الدستوري ص468). ويذهب البعض إلى أن تعيين أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا ورئيسه تحكمه في المقام الأول اعتبارات سياسية لها أثرها بالضرورة على استقلاله (د. سعاد الشرقاوي والدكتور عبدالله ناصف– أسس القانون الدستوري ص 1986 ص 169). عدول المغرب عن النموذج الفرنسي وقد عدلت عن النموذج الفرنسي كثير من الدول التي أخذت به، منها المغرب في دستوره سنة 2011، الذي نص صراحة على مبدأ الفصل بين السلطات، وألغى المجلس الدستوري وأنشأ محكمة دستورية، تتألف من اثني عشر عضواً يعينون تسع سنوات قابلة للتجديد، ويتم اختيارهم من بين الشخصيات المتوافرة على تكوين عال في مجال القانون، وعلى كفاءة قضائية أو فقهية أو إدارية والمشهود لهم بالتجرد والنزاهة، تمارس رقابة سابقة وقائية ولاحقة على التشريعات. وجعل من المحكمة الدستورية سلطة مستقلة تماما- في تكوينها وتشكيلها العضوي واختصاصها- عن باقي السلطات، إذ نص صراحة في المادة (56) منه على أن: "يترأس الملك المجلس الأعلى للسلطة القضائية"، ولكن قانون إنشاء هذه المحكمة لم يتضمن نصا برئاسة الملك للمحكمة الدستورية. وفي ضوء ما تقدم فإن الرأي الراجح في فقه القانون العام ينتهي إلى أن الرقابة السياسية لا تضيف شيئاً أكثر من وضع حد للنزعات السياسية لإحدى الهيئات السياسية (البرلمان) عن طريق خلق هيئة سياسية أخرى جديدة ليست هي الأخرى في منأى عن هذه النزعات (الأستاذ الدكتور طعيمة الجرف ص 67-68). الأمر الذي أدى إلى تفضيل الرقابة القضائية في هذا الشأن على الرقابة السياسية لما تتميز به الأولى من الحيدة والموضوعية (الأستاذ الدكتور يحيى الجمـل ص 93 – 94). وأنها تتأثر بالاتجاهات السياسية دون الاعتبارات القانونية، وأنه قد يكون في وجودها سبب للاضطراب السياسي إذا سيطرت عليها اتجاهات سياسية مخالفة لاتجاهات المجلس التشريعي (الدكتور طعيمة الجرف المرجع السابق ص 87). الرقابة القضائية والفصل بين السلطات ويرى جمهور الفقهاء الفرنسيين الحديثين كذلك أن الاعتراف للقضاء بسلطة بحث دستورية القوانين لا يتعارض مطلقا مع مبدأ الفصل بين السلطات، لأن هذا الاختصاص لا يخرج بالقاضي عن دائرة عمله ولا يجعله يعتدي على الدائرة المتروكة للمشرع، فمن المعروف أن هذا القول ليس صحيحا فقط في النظام البرلماني الذي يؤخذ فيه بمبدأ الفصل بين السلطات فصلا لحمته التعاون وتبادل الرقابة فيما بينها، إنما هو صحيح حتى في النظام الرئاسي المأخوذ به في الولايات المتحدة الأميركية، حيث الفصل بين السلطات فصل مطلق دون تعاون، لأنه لا يجوز أن يفرض على القضاء احترام عدوان السلطة التشريعية على الدستور. فبحث دستورية القوانين أمر داخل في طبيعة عمل القاضي دون مساس بمبدأ الفصل بين السلطات حتى في البلاد التي تجعل هذا الفصل مطلقا. أغلب دول العالم مع «القضائية» ومن الجدير بالذكر أن الرقابة القضائية على دستورية القوانين قد حظيت بمكانة كبيرة في أغلب دول العالم، منها دساتير سويسرا سنة 1874 وبوليفيا 1889 وكولومبيا 1886 والنمسا سنة 1920 ورومانيا سنة 1923 والعراق سنة 1925 وفنزويلا 1931، وكوبا سنة 1934 وأيرلندا سنة 1937 وإيطاليا واليابان سنة 1947 وألمانيا الغربية سنة 1949 والصومال سنة 1960 وتركيا سنة 1961. ويعد دستور الكويت سنة 1962، ودساتير ليبيا 1963 وتشيكوسلوفاكيا 1968 ومصر والإمارات (سنة 1971) وسورية سنة 1973 ويوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية سنة 1974 وإسبانيا 1978 وبولندا 1982 والمجر وبلغاريا 1991 ورومانيا 1992 وسلوفاكيا والتشيك ويوغسلافيا 1997 والسودان سنة 1998 والبحرين سنة 2002. بالإضافة الى دول كثيرة يمارس القضاء فيها رقابته على دستورية القوانين، دون نص في دساتيرها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، سنة 1789 بمقاطعة رود آيلاند (Rhode Island) وقبل إنشاء المحكمة الاتحادية العليا في سنة 1803 وإن لم يستقر العمل بها نهائيا إلا قبيل منتصف القرن التاسع عشر، ثم ثبتت أركانها بعد ذلك على مر السنين، والنرويج منذ عام 1890 واليونان منذ عام 1904 ورومانيا منذ عام 1912 وقبل النص على هذه الرقابة في دستورها الصادر في عام 1923 ومصر منذ عام 1948، قبل النص على هذه الرقابة بنص صريح في قانون إنشاء المحكمة العليا سنة 1969، وفي دستور سنة 1971. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.