تتضاعف أعداد من يعانون من الإجهاد و"الاحتراق النفسي" يومًا بعد يوم، فهل ننحي باللائمة على نمط الحياة الحديثة؟ أم أن الإنهاك، سواء كان بدنيًا، أو ذهنيًا، أو نفسيًا، هو حالة ملازمة للبشر منذ قديم الزمن؟ ديفيد روبسون، الصحفي العلمي في "بي بي سي فيوتشر"، يبحث في هذا الأمر. منذ بضعة سنوات، وقعت آنا كاثرينا شافنر فريسة لـ "وباء" الإجهاد، وكانت أولى علاماته الشعور بالفتور الذهني والبدني، على حد وصفها؛ إذ كانت تستثقل كل الأعمال، حتى المهام المعتادة كانت تستنفد طاقاتها، وبات من الصعب عليها التركيز في العمل. وحتى حين كانت تحاول الاسترخاء، كانت تجد أنها لا تكف عن مطالعة رسائل البريد الإلكتروني في كل الأوقات، وكأن علاج الملل سيأتي إلى بريدها الالكتروني من حيث لا تحتسب. ولم تكن شافنر تعاني من التعب والإعياء فحسب، بل كانت تشعر أيضًا باليأس، وقالت: "كنت مصدومة، ومحبطة، وفاقدة للأمل". وهذه المشاعر تبدو مألوفة لعدد لا يحصى من الناس، من البابا بنيديكت السادس عشر، إلى ماريا كاري، الذين عانيا من الإنهاك النفسي. وإن كنت تصدق وسائل الإعلام، فإن الإنهاك النفسي هو حالة مرضية حديثة تمامًا، إذ كلما تشغل شافنر التلفاز، تشاهد جدالًا حول التجارب التي نواجهها في ظل تواصل العمل ليلًا ونهارًا. وتقول شافنر: "يشير كل المعلقين إلى العصر الذي نعيشه بأنه الأسوأ على الإطلاق، وأن الحياة في هذا العصر ستقضي تمامًا على مخزون الطاقة لدينا". ولكن هل تكمن المشكلة في هذا العصر بالفعل؟ أم أن الإنسان يجب أن يمر بفترات من فتور الهمة والعزلة، كجزء لا يتجزأ من حياته، مثلها مثل الإصابة بالبرد وكسور الأطراف؟ وقد عقدت شافنر العزم، لكونها ناقدة أدبية ومؤرخة طبية بجامعة كنت بالمملكة المتحدة، على أن تجري المزيد من الأبحاث في هذا الأمر، وأثمرت جهودها عن كتاب "الإجهاد: من وجهة نظر تاريخية"، وهو دراسة رائعة تتناول طرق فهم الأطباء والفلاسفة لحدود العقل والجسم والطاقة البشرية. مما لا شك فيه أن الإنهاك بات أحد القضايا الملحة اليوم، ولا سيما بعد الكشف عن الأعداد المخيفة للمصابين بالإجهاد في القطاعات المستنزفة للمشاعر، مثل قطاع الصحة. إذ توصلت دراسة أجراها أطباء ألمان إلى أن نحو 50 في المئة من الأطباء يعانون من حالة من الإجهاد تعرف باسم "الاحتراق النفسي". ومن بين الأعراض التي ذكرها هؤلاء الأطباء، على سبيل المثال، أنهم يشعرون بالتعب في كل ساعة على مدار اليوم، ومجرد التفكير في العمل في الصباح يجعلهم يشعرون بأن قواهم منهكة. لكن المثير للدهشة أن الرجال والنساء يتعاملون مع الاحتراق النفسي بطرق مختلفة، بحسب دراسة فنلندية أخيرة. إذ وجدت الدراسة أن الموظفين الذين يعانون من ذلك الإنهاك يميلون إلى الحصول على إجازة مرضية أكثر بمراحل من الموظفات اللائي يعانين من الاحتراق النفسي، على سبيل المثال. وبما أن الاكتئاب يؤدي إلى فتور الهمة والعزلة، فإن البعض يزعم أن الاحتراق النفسي هو تسمية أخف وقعًا على النفس من الاكتئاب. وقد استشهدت شافنر في كتابها بمقالة في جريدة ألمانية تزعم أن الاحتراق النفسي يصيب المهنيين الناجحين، وذكرت المقالة أن "الاكتئاب لا يصيب إلا الفاشلين". وبشكل عام، يعد الاكتئاب والاحتراق النفسي حالتين منفصلتين. وتقول شافنر: "يجمع واضعو النظريات على أن الاكتئاب يلازمه فقدان الثقة بالنفس، أو كراهية الذات، أو احتقار الذات، على عكس الاحتراق النفسي، الذي لا يغير في الغالب من صورة الذات في الذهن". وتابعت شافنر: "لا يصب المريض الذي يعاني من الاحتراق النفسي جام غضبه على الذات، بل على المؤسسة التي يعمل لحسابها، أو العملاء الذين يعمل معهم، أو النظام الاقتصادي أو السياسي والاجتماعي الأشمل". كما يختلف الاحتراق النفسي عن متلازمة التعب المزمن، التي يعاني فيها المريض من فترات طويلة من الإنهاك الذهني والبدني المؤلم لما لا يقل عن ستة أشهر، وقد ذكر الكثير من المرضى أنهم يشعرون بآلام بدنية عند بذل أقل مجهود. ويقال إن عقولنا لم تتطور بما يكفي للتعامل مع بيئة العمل الحديثة. إذ أن زيادة الاهتمام بمعدل الإنتاج، فضلًا عن احتياج الشخص النفسي لإثبات قيمته من خلال النجاح في العمل، جعلا العاملين في حالة تأهب دائمة لمواجهة الأخطار، فيما يسمى بـ "استجابة العراك أو الفرار"، وهو رد فعل فسيولوجي حيال المخاطر المحدقة بالشخص. ولكن إذا واجهنا هذا الضغط يومًا تلو الآخر، فعلينا تحمل مآلات ارتفاع هرمون التوتر في الجسم بمعدل ثابت، وستعاني أجسامنا من أجل محاربة هذا الهجوم المستمر. ويرى كثيرون أن الضغط لا ينتهي مع انتهاء العمل، بل إن المدن والأجهزة التكنولوجية، تضج بالحياة باستمرار، وبات من الصعب، في ظل الانغماس في العمل المتواصل على مدار اليوم، أن يجد المرء وقتًا للراحة ليلًا أو نهارًا. ولهذا فإن مخزون الطاقة لدينا ينخفض دومًا إلى مستويات تنذر بالخطر. هذا على الجانب النظري، أما الجانب الأدبي، فقد سبرت شافنر أغوار الإجهاد النفسي على مرّ التاريخ، وتوصلت إلى أن الناس كانوا يعانون من الإجهاد الشديد قبل ظهور بيئة العمل الحديثة بوقت طويل. وكتب الطبيب الروماني غالينوس أولى النقاشات عن الإجهاد. إذ يُعزي غالينوس، على غرار أبقراط (أبو الطب لدى اليونانيين)، كل الأمراض النفسية والبدنية إلى التوازن بين الأخلاط الأربعة، وهي الدم، والصفراء، و المرَّة السوداء، والبلغم. وقال إن تراكم المرَّة السوداء يُبطّئ الدورة الدموية في الجسم، ويسد المسارات العصبية في الدماغ، مما يؤدي إلى فتور الهمة، والخمول، والبلادة، والكآبة. على الرغم من أن هذا الافتراض لا يركن إلى أساس علمي، إلا أن فكرة أن أدمغتنا مملؤة بسائل أسود كلون القار يستجلب الأفكار الضبابية والحزينة، هي نفس الحالة التي يذكرها أولئك الذين يعانون من الإنهاك النفسي اليوم. وبعد ترسّخ الديانة المسيحية في الثقافة الغربية، أصبح الإنهاك أحد علامات ضعف الإيمان. وتشير شافنر إلى كتابات إيفاغريوس بونتاكيوس في القرن الرابع ميلاديًا، حين وصف "شيطان منتصف النهار" على سبيل المثال، الذي يجعل الراهب يحدق ساهمًا عبر النافذة. وتقول شافنر: "كان ذلك يعد في الغالب خللًا في الإيمان والعزيمة، أو بالأحرى الروح مقابل الجسد". وأشارت إلى أنه روي عن أحد الرهبان أنه استحوذت عليه رغبة جامحة في البحث الدائم عن إخوانه من أعضاء الكنيسة للخوض في ثرثرة تافهة، بدلًا من الانشغال بأمور مفيدة، وهذا يذكرنا بمرضى الإجهاد النفسي في القرن الحادي والعشرين الذين يشعرون دومًا برغبة ملحة في مطالعة وسائل التواصل الاجتماعي. وقد كثرت التفسيرات الدينية والفلكية للإجهاد حتى ظهور الطب الحديث، حين بدأ الأطباء يشخصون أعراض الإعياء بأنها "وهن عصبي". إذ يدرك الأطباء الآن أن الأعصاب ترسل إشارات كهربائية، ويعتقدون أن الشخص الذي يعاني من ضعف في الأعصاب ستتبدد لديه الطاقة كما يبدد السلك المعزول بشكل رديء الطاقة الكهربائية. وقد شُخِصت الأعراض التي كان يعاني منها كل من أوسكار وايلد، وتشارلز داروين، وتوماس مان، وفيرجينيا وولف، وغيرهم من المفكرين بأنها وهن عصبي. وربط الأطباء الوهن العصبي بالتغيرات الاجتماعية التي أحدثتها الثورة الصناعية، على الرغم من أن المشاعر الرقيقة كانت تعد أيضًا دلالة على الرقة والذكاء، حتى أن بعض المرضى استمرت لديهم هذه الحالة بسبب اتخاذهم لها مصدرًا للتفاخر. وعلى الرغم من أن القليل من البلدان تنزع إلى تشخيص الوهن العصبي اليوم، فإن هذا المصطلح يستخدمه في الغالب الأطباء في الصين واليابان، وإن كانوا يعتبرونه تسمية بديلة للاكتئاب، لكيلا يشعر المريض بالحرج. من الواضح أن الكثير من الناس على مرّ التاريخ كانوا يشعرون بالتعب والإرهاق تمامًا كما نشعر نحن، وتقول شافنر: "الإنهاك كان دومًا ملازمًا للبشر. ولكن لم يتغير عبر الزمن سوى أسباب الإنهاك وآثاره". إذ كان يعزى الإنهاك في العصور الوسطى إلى شيطان فترة الظهيرة، وفي القرن التاسع عشر إلى تعليم المرأة، وفي السبعينيات من القرن الماضي إلى صعود الرأسمالية التي تستغل موظفيها بلا رحمة ولا هوادة. وفي الحقيقة لم نكتشف بعد ما الذي يجعلنا نشعر بالنشاط والطاقة، وكيف نبددها بهذه السرعة من دون أن نبذل مجهودًا ماديًا. ولا نعرف بعد هل هذه الأعراض مصدرها البدن أم العقل، وهل هي ناتجة عن المجتمع أم بسبب سلوكياتنا نحن في الحياة. لعل الحقيقة تكون مزيجًا من كل هذه العوامل، إذ تبيّن، من خلال الفهم المتزايد لطبيعة الرابط بين العقل والبدن، أن مشاعرنا ومعتقداتنا قد يكون لها أثر بالغ على وظائف الجسم. نحن نعرف أن الضائقة العاطفية قد تزيد من الالتهاب، وتُفاقِم الألم، وفي بعض الحالات، على سبيل المثال، قد تؤدي إلى الإصابة بالنوبات المرضية المفاجئة والعمى. وتقول شافنر: "من الصعب القول إن أسباب مرض ما بدنية بحتة، أو نفسية بحتة، لأن المرض يأتي في الغالب نتيجة لأسباب نفسية وبدنية في آن واحد". وفي ضوء ذلك، ليس من الغريب أن تشوش الظروف المحيطة على تفكيرنا، وتكاد تشلّ أبداننا حتى نصل إلى حالة من تبلّد الذهن. ولهذا فإن الأعراض التي يشعر بها المريض ليست وهمية ولا من نسج خياله، بل هي أعراض حقيقية مثلها مثل الحرارة المصاحبة لفيروس الأنفلونزا. ولا تنكر شافنر ضغوط الحياة الحديثة، ولكنها تعتقد أنها تأتى، إلى حد ما، من شعورنا الزائد بالاستقلالية، ففي ظل زيادة المهام الموكلة إلينا، بتنا ندبر أنشطتنا بأنفسنا كما نشاء. ومع عدم وجود حدود للعمل، ينزع الكثيرون إلى بذل مجهود في العمل فوق طاقاتهم. وتقول شافنر: "هذا يتجلى في شعور الشخص بالقلق خشية أن يكون أداؤه أقل مما ينبغي، أو أن مستواه غير مرضي، أو أنه لا يلبي كل هذه التوقعات." كما توافق على أن البريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي تستنزف طاقاتنا الذهنية، وتقول: "أصبحت الوسائل التكنولوجية التي كان يفترض بها أن توفر طاقاتنا، عوامل تزيد من التوتر بطريقتها الخاصة". واليوم، بات التوقف عن العمل بعد الخروج من مكان العمل أصعب من أي وقت مضى. لقد تعلمنا من التاريخ أن علاج الإنهاك ليس سهلًا. إذ كان الأطباء في الماضي يصفون لمرضى الوهن العصبي الراحة التامة لفترة طويلة، ولكن الملل في الغالب لا يزيد حالة الضيق إلا سوءًا. واليوم، يتلقى الأشخاص الذين يعانون من الاحتراق النفسي العلاج السلوكي المعرفي لمساعدتهم في التعامل مع الإنهاك العاطفي وتحديد السبل التي يمكن أن يسترد المرء بها نشاطه وعافيته. تقول شافنر: "إن علاج الإنهاك النفسي يعتمد على كل حالة على حدة، ويجب أن تكتشف بنفسك ما الذي يستنفد طاقتك، وما الذي يساعدك في استعادتها". إذ بينما قد يحتاج البعض إلى تحفيز من خلال ممارسة رياضات قاسية، فإن البعض الآخر ربما يفضل قراءة كتاب. وأردفت شافنر قائلة: "والأهم من هذا وذاك أن تفصل بين العمل والراحة، لئلا يطغى العمل على وقت الراحة". وقد تبيّن لشافنر أن معلوماتها الغزيرة ساعدتها في مواصلة حياتها مهما ارتفعت لديها مستويات الطاقة أو أوشكت على النضوب. وتقول شافنر: "المفارقة أن البحث والكتابة في مجال الإنهاك النفسي يبعث على الهمة والنشاط. لقد تحمست بشدة للموضوع، كما أنني شعرت بالراحة حين علمت أن الكثير من الناس مرّوا بتجارب مشابهة في مختلف العصور". وأردفت قائلة: "حين يعلم المرء أنه ليس وحده الذي ينتابه هذا الشعور، وأن الكثيرين غيره قد مرّوا بالتجربة ذاتها، رغم اختلاف الظروف، سيشعر بالطمأنينة وتهدأ مخاوفه".