تنطلق رواية الكاتب الإنكليزي إفلن فو «العزيز الراحل» (وسنستخدم هنا عنوان ترجمتها الفرنسية لا العنوان الأصلي الإنكليزي «المحبوب»، بالنظر الى أن كل الترجمات الأخرى سارت على خطى التسمية الفرنسية إذ بدت أكثر منطقية)، من رحلة الى الولايات المتحدة قام بها الكاتب إذ دُعي لإلقاء سلسلة من المحاضرات، هو الذي حين سُئل عما لفته في «العالم الجديد» أكثر من أي شيء آخر، أجاب: عبادة الدولار. لكنه أضاف مستدركاً في مجال آخر، أنه حين وصل الى هوليوود ضمن إطار الجولة، أذهلته طقوس الموت والجنازات هناك إذ رآها تنقض كلياً ما كان سمعه عن بساطة الحياة الأميركية. وبالتالي قرر أن يكتب رواية اعتبرها بالنسبة اليه «رداً من الأرستقراطية الإنكليزية» على «توحّش الدولار الأميركي» فكانت هذه الرواية. > تدور الرواية من حول ثلاثة من الإنكليز يعيشون في أميركا، وتحديداً في هوليوود أو غير بعيد عنها: الشاعر دنيز بارلو، الذي تمكن بعد جهد من أن يحصل على وظيفة في مقبرة فخمة خاصة بالكلاب، السير فرانسيس هيسلي، كاتب السيناريو الذي فُصل لتوه من استديوات ميغالوبوليتان التي كان يعمل فيها، فما كان منه إلا أن شنق نفسه يأساً من مستقبله الغامض، وأخيراً سير آمبروز الأرستقراطي الذي ما إن يعرف بموت صديقه الكاتب المنتحر، حتى يسعى جهده كي يؤمن له دفناً لائقاً. وهكذا تبدأ إجراءات الدفن التي تطول وتتشعب إذ يختلط فيها من ناحية مقابلة دَفْن الحسناء إيميه تاناتوجينوس التي كانت قد ألقت بنفسها من النافذة حين استبد بها التردد إذ وجدت نفسها مضطرة للاختيار بين طالبي زواج منها، تحت ضغط مشعوذ مضطرب كانت من مريديه، هي التي ضيعت عمرها بين العمل التجاري و «بريد القلوب» في الصحف. وسينتهي الأمر بجثة إيمي المنتحرة أن تدفن مع جثث الكلاب، ما يمكّن فو من أن يصف لنا كيف أن الحضارة المادية الأميركية جعلت، في الموت على الأقل، البشر والحيوانات سواسية، مع ترجيح لمصلحة الأخيرة. > كل هذا يدور في هذه الرواية بلغة هزلية مفرطة تكاد تكون دون شبيه في الآداب الحديثة. ويصل الحسّ الساخر الى ذروته حين يصف لنا الكاتب جلسات التحنيط التي تُنفق عليها المبالغ الطائلة، ولا سيما إن تعلقت بتحنيط كلب مات وسط حزن أصحابه الأغنياء ولوعتهم. من المشاهد الطريفة في الرواية ذلك الذي يحدثنا فيه الكاتب عن أن الخبير الذي حنّط إيمي، سيتلقى منها مذّاك وصاعداً، بطاقة ترسلها من الأعالي اليه تقول فيها «صغيرتك إيمي تفكر فيك هذا المساء في أعالي السماء وهي تهز ذنبها». > واضح أن سخرية إفلن فو هنا إنما تستهدف كشف مجتمع يقوم على المظاهر وعبادة المال، مجتمع يقول لنا الكاتب أنه يحتفل بالموت أكثر من احتفاله بالحياة. غير أن الأرستقراطية الإنكليزية لا تنجو هي الأخرى من سهام الكاتب، إذ لا يفوته أن يصور ممثليها، في مشاهد أخاذة، وهم منحنون أمام السيد دولار دون حياء أو وعي، يلتقطون الفتات الذي يقبل أن يرميه لهم، في الوقت نفسه الذي لا يتوقفون عن الثرثرة عن عظمة الماضي والإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، وعن أن «العالم الجديد» الذي كوّنته «حثالة» منهم ومن شعوب أخرى، حطّم القيم وأذل الكرامات جاعلاً للكلاب مكانة تفوق مكانة الإنسان ألف مرة ومرة. > على رغم أن أدب إفلن فو تميّز بسخرية وحسّ فكاهة جعلا الكاتب يعتبر من أكثر الكتاب الإنكليز مرحاً وطرافة في القرن العشرين فإن فو كان استفزازياً كارهاً للناس محتقراً للآخرين «بل حتى... كارهاً لنفسه»، في المقام الأول كما يقول مؤرخو حياته اليوم. ومع هذا، كان الرجل واحداً من كبار كتاب اللغة الإنكليزية. وهو لئن كان منسياً بعض الشيء حين رحل عن عالمنا في العام 1966، فإنه يعود الى الواجهة بين الحين والآخر، بفضل إصدار كتب عديدة عنه، كما عبر إعادة إصدار أبرز كتبه ومذكراته ورسائله، وكذلك عبر اقتباسه على الشاشتين. > ويعود نسيان ايفلن فو في العقود الماضية الى كونه كان يعتبر كاتباً رجعياً، إذ إنه، حتى حين اعتنق الكاثوليكية بدل البروتستانتية، بعد أول زواج فاشل له، اختار أن يكون في الجانب اليميني «المتطرف» من طائفته الجديدة، فراح ينتقد الفاتيكان بسبب بعض التحرّر الذي كان الكرسي الرسولي يمارسه في بعض الأحيان، كما لم يكفّ عن انتقاد تخلي الكنيسة عن استخدام اللغة اللاتينية في الصلوات. غير أن هذه المواقف كلها، على رغم وضوحها وعلى رغم أن أدب ايفلن فو كان يعكسها، لم تمنع مؤرخي حياة ايفلن فو من أن يتساءلوا دائماً عما إذا كان الرجل صادقاً في رجعيته، أم انه كان يدفع الأمور الى أقصاها لمجرد العبث والتعبير عن مواقف فوضوية. > في هذا الإطار يكاد فو يعتبر لغزاً. أما قراءة رواياته الرئيسية مثل «عظمة واندحار» و «خبطة صحافية» ولا سيما «العزيز الراحل» التي تهمنا هنا، فإنها لا يمكنها إلا أن تزيد الغموض غموضاً. ففي هذه الأعمال تبلغ سخرية إيفلن فو وتهكّمه اللئيم حدودهما القصوى، ولا يعود المرء مدركاً ما إذا كان الرجل يهزأ من شخصياته أم انه يأخذها على محمل الجدية. > ولد ايفلن فو العام 1903، في رحم عائلة متواضعة الأصول لكنها تضم الكثير من المتعلمين المتأدبين، فوالده كان ناقداً وناشراً، وأخوه آليك كان كاتباً بدوره. وإيفلن درس في اكسفورد، لكنه لم يكن متميزاً في دراسته، بل عجز عن نيل الديبلوم، لذلك ترك الجامعة وقرر الانصراف الى الصحافة والكتابة، فنشر وهو في الخامسة والعشرين روايته الأولى «عظمة واندحار» وفيها يتحدث، في شكل مليء بالسخرية والتهريج عن وضعية المعاهد الدراسية الانكليزية راسماً في طريقه صورة قاسية للشبيبة المذهّبة. ولقد انطبعت تلك الرواية بحسّ لا واقعي وبعبثية جعلا النقاد يستقبلونها باعتبارها تنتمي الى أدب الحداثة الرفيع، وهو ما سيسخر منه فو بعد ذلك بنصف قرن حين يقول كم انه خدع النقاد! > المهم، خلال السنوات التالية تزوج فو ثم طلق واعتنق الكاثوليكية وتزوج ثانية، ثم انخرط في العمل الصحافي وذهب الى الحبشة ليغطي احتلال موسوليني لها لحساب صحيفة «ديلي ميل». ومن الواضح أن الانطباعات التي تركتها أفريقيا لدى الكاتب كانت شديدة المرارة، غير انه لم يتعاطف مع مآسيها، بل ساند الغزو الإيطالي، أو هذا على الأقل، ما يحاول أن يقوله في رواية «خبطة صحافية» التي تدور أحداثها في بلد وهمي - يشبه الحبشة - يدعى «ايزمايل»، يمتلئ بمراسلين أجانب كاذبين ومهرّجين، ومنهم واحد يشبه الكاتب نفسه وينشر مقالات كاذبة ومضخمة ومليئة بالحس العنصري، ومن بينها مقال كان فو نفسه نشره في صحيفته! > خلال الحرب العالمية الثانية، انخرط فو في الجيش الإنكليزي، وأُرسل ليحارب في كريت فلم يبل أي بلاء حسن، بل نال سخرية واحتقار رفاقه. ويبدو أن هذا سَرّه لدرجة انه وصفه بدقة في رواية يدور جزء من أحداثها في يوغوسلافيا، وترينا تيتو، الذي تقول الرواية انه في حقيقة أمره امرأة متنكرة في ثياب رجل، وشاذة جنسياً. ولسنا في حاجة لأن نذكر كم أن هذه الرواية أثارت سخط اليوغوسلاف والإنكليز سواء بسواء! > في العام 1945 نشر فو روايته الأشهر «العزيز الراحل» التي يسخر فيها بخاصة من بائعي معدات الدفن والجنازات في الولايات المتحدة (وهي رواية حُولت ذات يوم الى فيلم اميركي طليعي وحاد). وفي العام نفسه، راحت حملة الكاتب على الفاتيكان تشتد، على رغم تمسكه بكاثوليكيته التي قال عنها يوماً: «أنتم ليست لديكم أية فكرة عن مدى القبح الذي كان من شأني أن أكون عليه لو لم أكن كاثوليكياً. لولا أن الرب ساعدني، بالكاد كان يمكنني أن أكون كائناً بشرياً». أما السنوات الأخيرة من حياته فقد أمضاها فو في كتابة مذكراته، شبه منعزل في الريف مع زوجته الثانية وأولاده الستة. وحين رحل لم يأسف عليه كثيرون.