×
محافظة المنطقة الشرقية

اقتصادي / السفير السيريلانكي : نسعى لاستكشاف المزيد من الفرص التجارية والسياحية بين المملكة وسيريلانكا

صورة الخبر

سلمان عز الدين كتب الروائي الإنجليزي آي إم فورستر مؤلف رواية طريق إلى الهند شيئاً عن حياته خلال الحرب العالمية الأولى، متذكراً كيف أنه قرأ في العام 1917، وكانت أهوال الحرب في أوج هذيانها، بروفورك وقصائد أخرى من أعمال إليوت المبكرة. ويخيب الكاتب الشهير الفكرة المسبقة عما يجب أن تكون عليه شهادات الأدباء عن الحروب، إذ يعلن سعادته بقراءة قصائد بريئة من الروح العامة، وانتشاءه بالوقوف أمام أشخاص يملكون خلو البال ليشكوا سأمهم من ثرثرة الصالونات، مؤكداً أن ذلك الذي بإمكانه الانسحاب جانباً للشكوى من هذه الهموم الصغيرة قد احتفظ بقطرة من احترامنا لذاتنا، ومضى مستمراً بتراثنا الإنساني.. في حرب أخرى جرى الزمن فيها جامحاً، ودخلت الحدود الجغرافية في الرقصة، وكانت الدول تتباعد وتتلاحم كالأكورديونات، أرسل زوربا كازانتزاكس إلى رب عمله السابق، وشريكه في محاورة وجودية خالدة، برقية يدعوه فيها إلى موافاته في الصرب، فقد وجدت حجارة خضراء عظيمة. تعال فوراً. كان صديق زوربا في ألمانيا حينئذ، وكان ذلك في أيام المجاعة الكبيرة.. المجاعة، والبرد، والثياب الممزقة، والأحذية المهترئة، والخدود الألمانية القرمزية التي شحبت..، فغضب من الدعوة الفظة الخالية من أي حس إنساني ورد عليها مؤنباً. فورستر بدوره كان قد تلقى تأنيباً، خاصة من لويس ماكنايس (واحد من أدباء الجيل التالي) الذي انتقد جيل فورستر واستجابته الباردة، وعدم انخراطه كفاية، ولامبالاته إزاء ما يدور حوله. هل نحن أمام قلوب متحجرة لا تعبأ بالآلام الإنسانية؟ بعد أيام هدأ فيها غضبه، راح المعلم يتحدث لأصدقائه بحماسة عن تلك النفس الكبيرة التي اسمها زوربا. أما فورستر فقد وجد من ينافح عنه، إذ كتب جورج أورويل: في التباين بين تعليق السيد فورستر وأكاذيب السيد ماكنايس يكمن كل الاختلاف بين رجل علم كيف كانت حرب ال 1914 1918 ورجل يذكرها بالكاد. الحقيقة هي أنه في عام 1917 لم يكن هناك شيء بإمكان شخص مفكر وحساس فعله سوى البقاء إنسانياً.. ولفتة عن اليأس، أو حتى عن العبث، قد تكون أمثل طريقة لفعل ذلك. لو أني كنت جندياً أقاتل في الحرب العظمى، كنت أفضل لو أني حصلت على نسخة من (بروفورك).. لكنت شعرت، مثل السيد فورستر، أنه بمجرد الوقوف بنأي وإبقاء صلة مع عواطف ما قبل الحرب، كان اليوت مستمراً بالتراث الإنساني. ويستعين أورويل بهنري ميلر الذي قال مرة: إذا عشت في خضم حدث تاريخي كبير فإما ألا تنتبه له.. لا تعبأ به، وعندها تكون أحمق كبيراً، وإما أنك تنفذ إلى عمقه لتكتشف استحالة مجابهته، أو حتى تغيير مساره، فتستسلم له، استسلاماً أشبه بحالة من القبول الصوفي. فورستر الكاتب، وزوربا الشخصية الروائية (والتي لا تقل حقيقية مع ذلك)، لم يكونا من أولئك الذين لا ينتبهون. لقد نفذا، على الأرجح، إلى عمق ما كان يجري حولهما، وفيما الحرب تستمتع بجنونها وتتلذذ بأشلاء ضحاياها، فقد أدركا أن الخطر لا يحيق بالناس فقط، بل بالإنسانية نفسها.. فكرة ومبدأ وجوهراً. هكذا لجأ الأول إلى كتب الشعر فيما احتمى الآخر بالطبيعة، ليس بنية الهرب، بل بدافع من غريزة البقاء.. البقاء إنسانيين، وسعياً إلى التشبث بمسيرة الإنسانية المهددة بالانقطاع، ولو عبر خيط رفيع وهش. لطالما كانت الكتب، كتب الأدب تحديداً، ملاذاً للأرواح التائهة في أزمنة الحروب، هنا ثمة ما هو أكثر أهمية من مخبأ. إنه البئر العميقة المغلفة بالسكينة، وما أن نشرع بالهبوط إليها حتى تنتهي سطوة الرصاص وتغدو المدافع أقل عنجهية، فنحلم أن نعثر في القعر على بقايا معنى.. أي معنى، فيما كل المعاني تكون قد أزهقت فوق.. على السطح، ويتجدد الأمل في أن نبقى على قيد الإنسانية. تقول لنا كتب الأدب: وهذه أيضاً ستمضي،وإن ما يحدث اليوم قد حدث مراراً وتكراراً، وعلى الأرجح، سيحدث في أزمنة قادمة بعد زمانكم. لا تجزعوا فالتراث الإنساني محفوظ هنا بين دفات أمينة، والبشرية لا تزال بعيدة عن الفناء، وهاكم الدليل: فأنتم تقرؤون الآن، في هذه الصفحات المبرقشة بالحبر، عن أموات كثر ولكن بأقلام أحياء. وأنتم أيضاً سيأتي أحياء ليخلدوا موتاكم في كتب. ومن يدري؟ ربما يعثر قراء الغد، بين الكلمات، على المعنى الذي ضيعتموه في متاهة لحظتكم الراهنة (هي لحظة حتى ولو توهمتم أنها أبد). في مناسبات عديدة، شكلت كتب الأدب عوناً لغريزة البقاء (البقاء بالمعنى الفيزيقي هذه المرة)، ففي كتابه الأدب في خطر يورد تزفيتان تودوروف هذه الواقعة: أثناء الحرب العالمية الثانية، وجدت امرأة شابة نفسها حبيسة السجن في باريس. لقد تآمرت على المحتل الألماني، وقبض عليها. شارلوت دلبو وحيدة في زنزانتها، تخضع لنظام الليل والضباب، لذلك لا حق لها في الكتب. لكن رفيقتها في الطابق الأسفل تستطيع استعارة مؤلفات من المكتبة. فتضفر دلبو ضفيرة من خيوط استلتها من غطائها وتتناول كتاباً من النافذة. كتاب تلو كتاب.. فإذا بالمرأة السجينة تعثر على خيط الحياة وتتشبث به، وتطير إلى عالم آخر لم تعد فيه وحيدة، وحتى بعد انتقالها إلى معسكر الموت أوشفيتز فإن الشخصيات الروائية لم تكف عن زيارتها وتشجيعها. بعد سنوات تعود إلى فرنسا، لتكتشف أن شخوص الروايات يمكن أن يكونوا رفاقاً موثوقين، فتكتب: مخلوقات الشاعر هي أكثر حقيقة من مخلوقات اللحم والدم لأنها غير قابلة للنفاد. لذلك هم أصدقائي، أولئك الذين بفضلهم نرتبط بالبشر الآخرين، في سلسلة الكائنات وفي سلسلة التاريخ. وفي كتابه الأمل والذاكرة، يتحدث تودوروف عن الوجه الآخر لحافز الأدب: الكتابة. فمارغريت بوبر نيومان تعد زميلتها في معسكر الاعتقال، ميلينا (الصديقة السابقة لفرانز كافكا)، بأن تبقى حية لتروي حكايتها، تموت ميلينا وتفي مارغريت بالشق الأول من وعدها فتبقى على قيد الحياة. وبعد سبع سنوات، تغلبت فيها على المرض والجوع وفنون التعذيب، تنال حريتها وفرصة تنفيذ الشق الثاني من وعدها. ولكن المفاجأة أن مارغريت لم تمت حالما أنهت كتابها سجينة ستالين وهتلر. لقد عاشت سنين طويلة بعد ذلك، وألّفت المزيد من الكتب. فيكتور كليمبيرير رجل آخر عاش محنة الحرب، هو مسكون بالعزلة الموحشة، ومرتعد من شبح الموت الذي يطارده على مدار اليوم، جلس ليدوّن مذكراته. كتب صفحات وصفحات، أنهاها بهذه العبارة: لا شيء يعوض حقيقة اللغة. حقيقة اللغة التي تقوى على مجابهة كل هذا العبث الدموي. أي مكان نجد فيه ذلك أفضل من كتب الأدب؟