×
محافظة المنطقة الشرقية

مركز الملك سلمان للإغاثة ينفذ 80 برنامجاً يستفيد منه أكثر من 62 مليون مستفيد

صورة الخبر

محمد الاسعد قرأت لأول مرة عن تداخل الفنون في النص الأدبي لدى الروائي الأمريكي، ترومان كابوتي (1924-1984)، صاحب رواية قيثارة العشب (الرواية الوحيدة التي ترجمت له إلى العربية في خمسينيات القرن العشرين)، حين تحدث في مقدمته لمجموعته القصصية موسيقى من أجل الحرباوات (طبعة 1985)، وهي آخر مؤلفاته، عن ما سماها أزمة إبداعية بدأ يمر بها في العام 1977. اللافت للنظر في تأملاته قوله إن ما يمتلكه الكاتب من معارف عن الكتابة، سواء كانت في القصة أو الشعر أو المسرح، أو الفنون مثل السينما والفن التشكيلي، يشبه امتلاك لوحة مزج الألوان التي يستخدمها الرسام، وعليه أن يستخدم كل معارفه هذه (الألوان) لكي يفجر الطاقة الكامنة كلها والإثارات الجمالية التي تحملها جملة هذه المعارف. يمنح كتابٌ صغير للأمريكي إرنست فنلوزا (1853-1908)، درس فيه الكتابة التصويرية الصينية كوسيط شعري، فكرة عن تداخل الصوتي والبصري في قوله إن الكلمة الصينية هي مزيج من حيوية اللوحة التشكيلية وحركية الأصوات، أي موسيقى الكلام، وأن الصور في هذه اللغة هي صور أفعال وليست صور أشياء ساكنة. وربما كان لممارستي للرسم منذ سن مبكرة (التاسعة) ودراستي للفن التشكيلي على يد فنان كبير مثل إسماعيل الشيخلي، خلال سنواتي الجامعية في بغداد، أثر في ما لاحظه بعض النقاد من عنايتي بالتشكيل والصورة البصرية في قصائدي، وأيضاً ما رأى فيه بعضهم ما يشبه عدسة التصوير السينمائية في شعري ورواياتي. لم أكن حقيقة أعي أنني أحدث تداخلاً بين ما هو تشكيلي وماهو صوتي وما هو دلالي، حين كان بعضهم يأخذ عليّ في سبعينيات القرن الماضي أن سطوري الشعرية لا تمنحه ما أريد قوله بالتحديد، أي لا تمنحه معنى. لم أكن أجد إجابة دفاعية آنذاك، أما الآن فأدرك أنني كنت أستخدم تقانة فنية تعبر بالصورة والصوت لا بسرد المعاني. تقانة توحي وتسعى إلى أن تقول لا أن تقول وتقرر. وهي التقانة التي يعتمدها الفن الشرقي عموماً، والشعر الياباني على وجه الخصوص، في الشكل المسمى هايكو، وهي تلك القصيدة القصيرة التصويرية المختزلة في ثلاثة سطور، والشائعة الآن على نطاق يكاد يكون واسعاً في الوسط الشعري العربي. وتعزّزَ هذا المنحى بقراءات في الفن السينمائي، قراءة سيناريوهات الأفلام، ومشاهدة الأفلام بالطبع، والإطلاع على فن المونتاج الذي ابتكره السينمائي الروسي سيرغي إيزنشتاين ( 1898-1948) بإيحاء من فن الشعر، وخاصة أشعار بوشكين، والشعر الياباني والصيني، والمعني هنا هو المونتاج، أو القطع والوصل، البارز في قصائد الهايكو. جاء ذلك في تقديمه لكراس صغير كتبه ن.كوفمان عن السينما اليابانية في العام 1929، حدّد فيه مرمى تركيبٍ من صورتين رمزيتين، لا يبقى فيه الناتج تعبيراً عن مجموعهما، بل نتاجاً لهما، أي بوصفه قيمة لبعد آخر، لدرجة أخرى. ويوضح هذا بالقول أن كل صورة رمزية منفردة من الصورتين تعادل شيئاً من الأشياء، واقعة، ولكن تركيبهما يعادل مفهوماً. وبالتركيب من صورتين يمكن رسمهما وتصويرهما، يتحقق تمثيل شيء ما لا يمكن رسمه أو تصويره وجعله مرئياً. وهذا هو ما فعله إيزنشتاين في السينما تماماً، أحدث تركيباً من لقطات هي لقطات تصويرية كل واحدة منها ذات معنى منفرد، محايدة في محتواها، يحولها التركيب إلى سياقات فكرية أوسلسلة من السياقات. ولخص ما فعله بالقول، إن هذه وسيلة ونهج لا يمكن تجنبهما في أي عرض لفن سينمائي، وهما بشكل مكثف السينما الفكرية الساعية إلى أقصى حد من الإيجاز نحو التمثيل البصري للمفاهيم المجردة. أما في الثقافة العربية، فنجد أنفسنا أمام مؤثرين بالغين في فهمنا وإدراكنا لما تعنيه الصورة (الصورة التشكيلية وليس الفوتوغرافية) الأول مصدره حازم القرطاجني (1211-1285)، صاحب منهاج البلغاء وسراج الأدباء، في تمييزه الجميل بين ما هو شعري، وما هو محض تكلم. والصورة التي رسمها لشعراء مكفوفين يلتقطون الحصى ظناً منهم أنه الدرّ، لأنه يساويه في الهيئة والمقدار، صورة بليغة لا تفارق الذهن. والثاني مصدره البلاغي صاحب دلائل الإعجاز، والمقصود بها كما أظن دلائل الإبداع، عبد القاهر الجرجاني (1009-1078)، في حديثه عن معنى المعنى، وفي توجيهه النظر إلى سياق الكلام الذي يخلق المعنى وليس الألفاظ المفردة. ويمكننا القول الآن، إن تداخل الفنون كما نراه هو بعبارة أكثر دقة تمازج الفنون، بالمعنى نفسه الذي تحدث عنه كابوتي، وعلى هذا نجد أن هذا التداخل يتمظهر في: 1- أخذ الشاعر بتقانة الفن التشكيلي في صوره، بالملموس والبصري. 2- عناية الشاعر بفن التصوير السينمائي، في المزج بين حيوية الصورة وحركية الأصوات، وفي التقطيع، أي المونتاج، الذي يوجد تركيباً من صورتين ينبثق منه مفهوم لا ينتمي لأي واحدة منهما منفردة. 3- التركيز اللحظي، أي التقاط العاطفة والفكرة في صورة موحدة بلا تفاوت زمني، وهو ما يتجلى في قصائد الهايكو التي تخلو من أفعال الزمن الماضي أو المستقبل، ومادتها الفعل المضارع. وهذا التركيز مستمد أيضاً من فن التصوير البصري. 4- توزيع الأصوات على السطور كما يحدث بين عدة آلات موسيقية تشارك في عزف معزوفة واحدة وتظل لها سمتها الفردية في الوقت نفسه. 5- استدخال الدلالة الحسية لأصوات الكلمات. كأن الشاعر هنا يستدخل صوت الأفعال كما هي في الطبيعة، ثقلاً وخفة، يختلف باختلاف تجربة هذا أو ذاك من الشعراء. 6- يستدخل الشاعر مبدأ التشظي والتنافر بوصفه سمة جمالية، فيستثير أحاسيس لونية أو معنوية غير معتادة، أو يستكشف هذه الأحاسيس والمعاني. 7- يستعير الشاعر أحياناً المواقف المسرحية، والمواقف السردية التي تمتاز بها النصوص الروائية. لوحة مزج الألوان هذه، ما كان منها لوناً سمعياً أو بصرياً أو لمسياً، هي حصيلة ثقافة الفنان، شاعراً كان أو روائياً أو مسرحياً أو حتى ناقداً، تلك التي تمده بالطاقة الكافية، وتشعره أنه استخدم ممكناته بلا زيادة ولا نقصان. وفي مناسبة من المناسبات جرى فيها حديث التمازج والتداخل بين الفنون، دار حوارٌ بدأه شاعر فهم الأمر على خلاف ما طرحه كابوتي وفنلوزا، وحتى الجرجاني، وتساءل: هل عليّ أن أدخل في قصائدي أغاني أو قصصاً سمعتها أو قرأتها؟. وكان لا بد من الإيضاح والشرح، وتبيان أن المقصود هو استخدام ما يعيه الفنان وما يشكل نسيج مخيلته وينطبع عليه، لأن أفكاراً تدعو إلى أن يستخدم الشاعر أقصى ما يمتلك من معارف، ولنقل مسرحية وروائية وسينمائية وتشكيلية، في نطاق شكل فني واحد هو القصيدة، بدت مفاجئة وغريبة، ليس لأنها غائبة عما يمارسه كبار الشعراء عادة، بل لأن الوعي بها لم يكن حاضراً في ذلك التجمع الثقافي الذي دار فيه هذا الحوار. ولا يختلف الأمر بالنسبة لآخرين من غير الشعراء، ولنقل من الروائيين أو المسرحيين والتشكيليين، فهم، وفق هذا الوعي الذي أنتجته أزمة روائي مثل كابوتي، سيكون من القصور ألا يلتفتوا إلى حصيلتهم من شتى الفنون الأدبية وغير الأدبية، ويستخدموها في نطاق الشكل الذي يعملون في إطاره. وهناك أعمالٌ ماثلة تشير إلى أن هذا هو ما يحدث لدى عدد من المبدعين، فهناك مسرحي يستمد من اللغة طاقتها الشعرية، وروائي يحوّل سطوره إلى ما يشبه عين عدسة التصوير السينمائية، ناهيك عن آخرين تشعر أن كتابتهم تجري مجرى ضربات ريشة رسام.. وهكذا. يحدث هذا تحت أنظارنا، ونجد مقابل هذا أن بعض القراءات النقدية العربية لا تحسن وعي هذه الظاهرة، بل ويذهب عدد من أصحابها إلى نفي صفة الرواية عن رواية تستغل شعرية اللغة، أو صفة الشعر عن قصيدة لا تقول بل تصور وترسم، وكأن هناك أسواراً حديدية تسيّج هذا الشكل الفني وذاك، وتمنع التنافذ بين فضاءات مفتوح بعضها على بعض. بينما تقودنا القراءة المتجردة من هذه الجهالات، ليس إلى الدعوة إلى تجديد فكرنا النقدي فقط، بل إلى إعادة النظر فيما لدينا من منتجات فنية وأدبية في ضوء هذا الوعي.