محمد أبو عرب مثلما للهزائم جراحها وخيباتها التي تترك ندوبها في ذاكرتنا، وتاريخنا، لها أيضاً فضائل كثيرة، فالتاريخ ليس سلسلة من الانتصارات، بقدر ما هو سلسلة من الهزائم التي تتوالى ويمر بها النصر سريعاً كما لو أنه هامش، فحين نستعيد تاريخ الأمم والحضارات نذكر الكوارث التي أصابتها وأودت بمجدها، ولا نكاد نحفل بكل سنوات ازدهارها وعزها. لذلك ينبغي النظر ملياً في مفهوم الهزيمة، والبحث في عمق نتائجها، ولا ننشغل بعدد الضحايا، وكتابة المرثيات، والانهزام، والانزواء، فكل ذلك فائض عن حاجة الحياة، إذ هي تمر سريعاً، وتعبر، ولا يلحقها إلا من يعمل ويتجاوز واقعه إلى ما يطمح. صورتان للهزيمة شكلتا مفصلاً في تاريخ الثقافة العربية خلال القرن العشرين، وما زلنا نحصد نتائجها حتى اليوم، الأولى يتذكرها جيل السبعينات جيداً، ويكادون يبكون عليها، وهي هزيمة العرب الشهيرة عام 1967، والثانية هي كل ما أعقبها من حالة انتكاس تجلت في العقول التي لم تحتمل حجم الهزيمة وأردت نفسها برصاصة في الرأس، وكل ما رافق ذلك من هجرات كبيرة، كادت تفرغ العالم العربي من رشده. المتوقف عند الهزيمة التاريخية في سياقها المقابل وليس في مشهدها البكائي، يجد أنها أيقظت العرب من أحلام كبيرة، فاضت عن واقعهم، وكشفت مواطن العطب الراسخ في العالم العربي، سواء على صعيد السلطة ودورها، أو المثقف وأثر وجوده، وصولاً إلى التراث الثقيل الذي نحمله على أكتافنا. إضافة إلى ذلك أنجبت الهزيمة قائمة طويلة من المفكرين العرب الذين شكلت لهم الهزيمة نافذة واسعة أطلوا منها على حقيقتنا التاريخية، وجملة الإشكاليات العالقة التي لم نتجاوزها لنفكر بالنهوض، فمجمل الجهود الفكرية القائمة على فتح مسارات جديدة في قراءة التراث العربي تشكلت بعد الهزيمة.يروي الكثير من المفكرين العرب ذلك، في سيرهم، وحواراتهم الصحفية، ففي مقابلة مع الباحث والمفكر السوري محمد شحرور، اعترف أن هزيمة العام 1967 هي التي دفعت به للعناية بالتراث الإسلامي، وتكريس حياته لرسم مسارات واضحة لتجديد الخطاب الديني. الأمر ذاته يكاد ينطبق على مفكرين آخرين، فالمعاين لسيرة النتاج الفكري لكل من صادق جلال العظم، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وغيرهم يجد أنها ظهرت بعد الهزيمة، وكل النتاج الفكري المهم لمحمد عابد الجابري كان في السنوات العشر بعد الهزيمة. لذلك لا يمثل واقعنا اليوم سوى درس جديد، لنواجه إشكالياتنا التاريخية بصورة فيها الكثير من العمق والشمولية. Abu.arab89@yahoo.com