الإعصار الشعبي التركي الذي أسقط الانقلاب العسكري كشف الغطاء الرقيق عن حالة العقل العربي والإسلامي الحالي، العقلية التي تتعامل بسطحية ودوغماجية مع الأحداث الجارية، فنجدها وقد انقسمت على نفسها أفقياً ورأسياً إلى قسمين (مع وضد)، معاودة إنتاج الثنائية المقيتة التي تجرف واقعنا ووعينا الفردي والجمعي على حد سواء. - ١٣ عاماً أو تزيد قضاها الرئيس طيب أردوغان في الحكم، وحقق فيها إنجازات اقتصادية وسياسية وثقافية مذهلة قلبت الموازين على مستوى المعطى الداخلي التركي تنموياً وخارجياً، وحوَّل تركيا من دولة منفعلة بالأحداث إلى دولة فاعلة وصانعة للأحداث، ولكن العقل العربي الإسلامي، للأسف الشديد، ونخبة لم تكلف نفسها عناء جهد القيام بدراسة تحليلية معمقة للتجربة التركية ما لها وما عليها، وتسليط الضوء المعرفي والفكري والاستراتيجي عليها، وللأسف أقصى ما حاولنا الاستفادة منها، أن حوَّلنا تركيا إلى وجهة سياسية وملجأ كبير للفرار. - أردوغان، القائد الملهم اليوم في وعي الجماهير بشر، ومن المنطقي أن تجربته البشرية مليئة بالإيجابيات والسلبيات، وهذا أمر منطقي، الآن ما لا يختلف علية اثنان هو أن التجربة التركية اليوم تقدم فلسفة جديدة للنهوض، كانت الروح التي أسقطت الانقلاب، ودفعت الشعب بكل أطيافه إلى الخروج إلى الشوارع، وتقديم نموذج حي للشعوب كيف تصنع تاريخها، فأردوغان والرجال الذين عملوا بصمت معه أسهموا في هذا الإنجاز، وأخرجوا تركيا من صنمية الثقافة التي تعيق انطلاق نهضتها، فالشعب الذي خرج تلبية لنداء قائده الملهم أردوغان رفع العَلَم التركي وهتف باسم تركيا. - الانقلاب التركي اليوم يشكل زلزالاً ثورياً على المستوى الداخلى التركي والخارجي، وإعصاراً شعبياً اقتلع أشجار الاستبداد في العقول والأخلاق والثقافة والحكم، ونحن مطالبون اليوم بالخروج من حالة الثنائية المستهلكة للعقل والجهد والمستقبل، والعمل بعقل مفتوح، وفق مشروع محدد وواضح يري المستقبل من خلال إمكانياتنا البشرية والثقافية، ويعمل على تحويل هذا الحدث إلى إعصار ثانٍ أكثر قوة، لاقتلاع ما تبقى من جذور استبدادية متعفنة، وتحويله إلى حشد ثوري بتوظيف أدواتنا الثورية السياسية والفكرية والمدنية والشعبوية على الأرض، وتحويل مشروع حزب العدالة إلى برنامج ملهم نعمل على محاولة استنباته وفق الظروف والبيئات العربية، بما يتوافق وطبيعة الهيكلة المجتمعية في كل بلد. إن أهم ما يمكن قراءته من ملامح المشهد التاريخي أن خروج الشعب التركي كان على مستوى التحدي الحضاري الذي يستهدف تركيا التاريخ والحاضر والمستقبل؛ حيث يمكن أن نرصد بعض الأسباب التي أسهمت في إسقاط الانقلاب: - نجاح المشروع السياسي لحزب العدالة والتنمية في جعل الديمقراطية ثقافة شعب وطريق الخلاص الحضاري للأمة التركية، فعالم الأفكار السياسية والثقافية الذي تبناه حزب العدالة والتنمية استطاع أن يجعله مشروعاً شعبياً تجتمع حوله أطياف الشعب التركي، وهو ما لم تستوعبه شرذمة العسكر التي تعودت على الانقلابات الصامتة مرات عديدة - المفهوم الجديد للقيادة، التي تعتمد على شرعية الشعب ونظافة اليد، بعيداً عن استغلال النفوذ، رغم المحاولات التي حاول بها جماعات بعينها اتهام عائلة أردوغان باستغلال النفوذ والفساد المالي، فأردوغان استطاع خلال فترة حكمه أن يقدم نموذجاً جديداً للحاكم المندمج مع الشعب، يقاسمهم لقمة الخبز وظروف العيش، يشاركهم صلاتهم وأفراحهم وأحزانهم، وهي حالة حضارية تعدت تركيا إلى الصومال وبورما وغزة، وتجاوزت أردوغان إلى أغلب القيادات في الحزب، كأحمد داود أوغلو، وبن يلدريم. - قيادات الظل من شباب حزب العدالة والتنمية التي تلقفت نداء الرئيس أردوغان للشعب بالنزول إلى الشوارع لحماية الديمقراطية، فاندفع إلى الشارع معززاً بالشارع لمواجهة الانقلاب سلمياً في الشوارع والمطارات وغيرها، فالقيادات الشابة التي تؤمن بالمستقبل ولديها تنظيم واسع في التواصل مع الناس وخبرة على الحشد والإقناع، استطاعت أن توجه الشارع إلى الأماكن الحيوية كمطار أتاتورك، وإلى الميادين، ومارست دوراً إيجابياً في تراجع بعض القوات المسلحة المنقلبة. - التواصل المستمر مع الشعب من قِبل حكومة العدالة والتنمية وحسن إدارة وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث خرج الرئيس أردوغان بعد ساعة عبر "اسكايب" مخاطباً الشعب بالنزول إلى الشارع، وكذالك رئيس الوزراء ظل مستمراً مع وسائل الإعلام التركية، وكذلك الوزراء، كل هذا كان من أهم أسباب سقوط الانقلاب. بناء مؤسسات أمنية موازية لمؤسسة الجيش كمؤسسة الشركة ومؤسسة الاستخبارات التي تصدت للقوات المتمردة بكفاءة وعالية، وفي وقت وجيز أذهلت جميع المتابعين لمجريات الانقلاب، فالعلاقة المتأزمة بين السلطة المدنية والعسكرية في تركيا دفعت الرئيس التركي إلى بناء مؤسسة أمنية ومخابراتية قوية وموالية، تمتلك من التجهيزات ما يمكنها من أداء وظيفتها في حماية الإرادة الشعبية. النخب السياسية التي قدمت نموذجاً موحداً، رافضة الانقلاب، متناسية خلافاتها، فزادت حالة التضامن من قوة الحكومة، كما ظهرت القيادات السابقة للحكومة التركية مثل الرئيس عبدالله غل، ورئيس الحكومة السابق أحمد داود أوغلو، وأدت موقفاً مسانداً للحكومة، وحثّ الشعب على إجهاض الانقلاب، وهي حالة أضعفت جبهة الانقلاب والعسكر لصالح الحكم الديمقراطي والشعب. وأخيراً ما حدث في تركيا حدث حضاري كبير على الشعوب والحكام أن استيعابه جيداً، فهو حدث لن يمر دون تأثير على المنطقة الشرق أوسطية على المدى القريب، وعلى العالم على المستوى العام والبعيد. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.