تحول الدولار إلى معضلة كبرى في مصر، وصار سلعة يتم شراؤها وتخزينها ثم بيعها على مدى الأسبوعين الماضيين، وحتى البسطاء الذين لم يروا دولاراً طوال حياتهم صاروا يتحدثون عن «الأخضر»، وهو الاسم الكودي الذي أطلق على الدولار ثم تحول لفظاً دارجاً بين رجال البيزنس والمال. لم تصدر الحكومة المصرية أي قرار، ولم تتخذ أي إجراء، ولم تقع كوارث أو حوادث أو متغيرات محلية أو إقليمية أو دولية تبرر الارتفاع الحاد في أسعار العملات الأجنبية عموماً والدولار خصوصاً، إلا تصريح قصير أدلى به محافظ المصرف المركزي طارق عامر في مجلس النواب، أشار فيه إلى أن تعويم الجنيه المصري «سيتم في الوقت الذي يحدده المصرف المركزي»، رداً على مطالبة بعض الخبراء بتعويم العملة المصرية، لكن كلام عامر دفع الناس إلى الإسراع بـ «لمّ» الدولار من السوق و «تسقيعه»، وهو تعبير مصري آخر ظهر عندما كان رجال الأعمال يحصلون على أراضٍ من الدولة بثمن بخس، ويبقونها لفترة في حوزتهم ثم يبدأون بعرضها للبيع بعد رفع أسعارها. جرى «تسقيع» الدولار على مدى الأسبوعين الماضيين، وإضافة إلى تجار العملة أصبح كثيرون يتاجرون به، فقفز السعر كل ساعة حتى أصبح من الصعب ملاحقته. بالطبع ساهم في خلق مناخ ساعد على ارتفاعات أكبر وأسرع للعملة الأميركية دخول الأطراف التي تعمل منذ ثلاث سنوات تقريباً على هدم الدولة، فتابع الناس حملة ممنهجة جيشت لها جماعة «الإخوان المسلمين» لجانها الإلكترونية ووسائل إعلامها والقنوات المتحالفة معها لصب مزيد من الزيت على نار الدولار، علماً أن للجماعة خبرات واسعة في الإتجار بالعملات الأجنبية حيث يمتلك عدد غير قليل من قادتها ورموزها شركات للصرافة ولديهم آليات تجعلهم يستطيعون التأثير في السوق. كان هناك أيضاً الناشطون ورموز النخب المتأثرون بخروجهم من المشهد السياسي والذين لا يفوتون فرصة للإساءة إلى الحكم إلا استثمروها، وهم أنفسهم الذين كانوا وجهوا رسائل ونشروا تغريدات ووقفوا أمام سفارات دول أجنبية في القاهرة ليحثوها على منع سياحهم من المجيء إلى مصر. مسألة تقنية مهمة حول شخص محافظ البنك المصري الذي يتعرض لانتقادات حادة كلما طفت على السطح أزمة «الأخضر» أوضحها في مكالمة الخبير الاقتصادي شرين نور الدين، الذي أشار إلى أن تأثيرات الربيع العربي، وخصوصاً ندرة الموارد من العملات الأجنبية، أظهرت أن وجود محافظ تتركز خبراته في العمل المصرفي فقط ساهم في أزمات، لافتاً إلى أن الموقع يحتاج بالأساس إلى رجل اقتصاد لديه خبرات في وضع السياسات النقدية والتنسيق مع أجهزة الدولة لتنفيذ برامج اقتصادية ومالية، وأضاف: «كانت هناك سياسات نقدية واضحة في الفترات التي تولى فيها رجال اقتصاد مسؤولية المصرف المركزي كأحمد زندو وصلاح حامد ومحمد عبدالفتاح إبراهيم، لأن مهمة المصرف المركزي وضع السياسات النقدية والرقابة على المصارف، وبعد الربيع العربي وجد المحافظون المتعاقبون من أصحاب الخبرة في العمل المصرفي التجاري أنفسهم غارقين في مسألة الرقابة على حساب السياسات النقدية، فركزوا في أمور مصرفية بحتة كرفع أو خفض حد السحب، أو وضع حدود لبطاقات الائتمان في استعمالها خارج مصر، أو كما فعل المحافظ الحالي بالتدخل في تحديد سنوات بقاء رؤساء المصارف في مواقعهم! بما يتعارض مع حق الجمعيات العامة للمصارف». وأنهى المكالمة قائلاً: «في ظروف طبيعية استطاع محافظون للمركزي من أصحاب الخبرات في المصارف الخاصة كعلي نجم وإسماعيل حسن الموازنة بين السياسات النقدية والرقابية لكن الكوارث التي خلفها الربيع العربي لم تكن طبيعية وبالتالي تعثرت الأمور». لا تملك الدولة موارد كبيرة بعد ضرب السياحة والتصدير وتحويلات المصريين العاملين بالخارج ولا تستطيع أن تتحكم في الاقتصاد رغم تحميلها أعباء زيادة الأجور 3 أضعاف في 5 سنين، قفزت فيها الأجور الحكومية من 70 بليوناً إلى 220 بليوناً بفعل سنوات الفوضى وسرطان التظاهرات الفئوية الاحتجاجية. في المقارنة بين سعر «الأخضر» وأحوال الاقتصاد ومستوى الأسعار والتضخم وتآكل العملة المحلية في عهدي السيسي ومبارك تبدو المخالفة واضحة، فالأول لم يتسلم الحكم من الثاني وإنما جاء رئيساً بعد ثورتين وأحداث صاخبة وفوضى وارتباك سياسي ومحاولات لهدم الدولة وكوارث ضربت الاقتصاد كالإرهاب وسقوط الطائرة الروسية، وحكم جماعة سعت إلى «أخونة» الدولة على حساب الأمن والاستقرار والاقتصاد. الأخضر موجود بكثرة في السوق المصرية، لكن يتم «تسقيعه»، وسيعود لأن الدولة نجت من الربيع العربي، وما زالت قائمة.