عند نقطة تفتيش بوسط بيروت.. يفحص حارس شاحنة صغيرة للتأكد من خلوها من المتفجرات. هو أحد الحراس عند الحاجز الأمني الأخير قبل مبنى البرلمان الواقع على مبعدة 100 متر فقط ويعتمد في عمله على جهاز للكشف عن القنابل يقول الخبراء إنه "عديم الجدوى". يسير الحارس بملابسه المدنية إلى جوار الشاحنة ممسكا بذلك الجهاز.. ذلك المجس المتحرك المثبت على كتلة من البلاستيك الأسود يمكن الإمساك بها بقبضة اليد. وبعد المرور بالمجس حول العربة لا يصدر الجهاز أي إشارة استثنائية ويسمح الحارس للشاحنة بالمرور. وفي المرسى القريب الذي ترسو فيه يخوت الأثرياء على شاطئ البحر المتوسط المتلألئ وكذلك عند مداخل ساحة انتظار للسيارات تحت الأرض بمجمع تجاري فاخر تستخدم أيضا أجهزة رصد مماثلة. المشهد مألوف في نقاط التفتيش بمختلف أنحاء الشرق الأوسط منذ حوالي عشر سنوات بعد أن دفعت السلطات آلاف الدولارات ثمنا للجهاز الواحد على أمل احتواء موجات التفجيرات الفتاكة. لكن تلك الأجهزة التي تباع حتى لقوات حفظ السلام الدولية تثير انتقاد الخبراء الجنائيين الذين يرون فيها مضيعة للمال تنطوي على خطورة وتعتمد على تصور علمي زائف. تباع الأجهزة في الأسواق تحت مسميات مثل (إيه.دي.إي651) و(جي.تي200) و(ألفا) ويفترض أنها تصدر لدى اكتشاف مادة ناسفة إشارة تجعل مجسها المعدني يتحرك على مفصلة صوب تلك المادة. وفي عام 2010 فرضت بريطانيا حظرا على تصدير أجهزة (إيه.دي.إي651) و(جي.تي200) وحذرت من أن هذه الأجهزة وهمية وصدرت أحكام بالسجن على رجال أعمال بريطانيين جنوا ملايين الجنيهات الإسترلينية من تصنيعها وبيعها في أنحاء العالم. ومع هذا لم يتحرك رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي اشترت بلاده المئات من أجهزة (إيه.دي.إي651) منذ ثماني سنوات لمنع استخدامها إلا هذا الشهر فقط وبعد أن أوقعت شاحنة ضخمة ملغومة 292 قتيلا في بغداد. وشاهد مراسلو رويترز أجهزة بتصميم مشابه تستخدم في نقاط تفتيش بدول مثل لبنان وسوريا ومصر في الأسابيع أو الأشهر الأخيرة. وقال العالم دينيس مكولي إنه فحص جهازا ذا تصميم مشابه لتصميم (إيه.دي.إي651) و(جي.تي200) عندما كان يعمل في مختبر العلوم الجنائية بأيرلندا الشمالية وإنه فكك أجزاءه ليعرف كيف يعمل. وقال لرويترز "ليس هناك أي أساس علمي لعمله. هذا نصب تام." وتابع "إذا كانت السلطات تعول على هذا الشيء بأي شكل في رصد المتفجرات.. فهذا هزل. من غير المعقول أنها لا تزال تستخدمها." * "أشياء بلا قيمة" في مصر.. شوهد جندي يستخدم أحد هذه الأجهزة الشبيهة بالصولجان عند نقطة تفتيش في رأس سدر يفحص بها السيارات المنتظرة لعبور نفق الشهيد أحمد حمدي في سيناء. وقال المتحدث العسكري المصري العميد محمد سمير إن أي جهاز تشتريه مصر يخضع لمعايير محددة ويجري اختباره قبل توقيع عقد شرائه. وفي بيروت حيث أودى تفجير انتحاري مزدوج بحياة 44 شخصا في نوفمبر تشرين الثاني امتنع مسؤولون عن التعليق لكن حراسا بالمدينة يستخدمون هذه الأجهزة قالوا إنها فعالة. وقال حارس إنه اكتشف عبوة مخبأة في سيارة لكنه لم يقل إن كانت تحتوي على متفجرات. ورغم أنه لم يتسن تحديد نوع الأجهزة التي شاهدها مراسلو رويترز في لبنان وسوريا ومصر فإنها تبدو خارجيا من نفس تصميم أجهزة (إيه.دي.إي651) و(جي.تي200) التي فرضت بريطانيا حظرا على تصديرها. قال دان كازيتا عضو مجلس الإدارة المنتدب بشركة (سترونج بوينت سكيوريتي) للاستشارات الأمنية في لندن وخريج معهد تدبير المعدات الناسفة التابع للجيش الأمريكي إنه ما من جهاز يمكنه العمل على أساس فكرة التحرك الهوائي لدى رصد آثار مواد ناسفة. وأضاف "ما من شيء وفقا للتكنولوجيا الحالية يمكن مسكه باليد ويكشف عن بعد المواد المتفجرة بأي درجة من الدقة أو التحديد. هذا ببساطة شيء لا وجود له." وقال أيضا مكولي الخبير الجنائي إن أي جهاز يستند إلى نظرية الهوائي المتحرك الكاشف للمواد المتفجرة -والذي شبهه باستخدام قضبان للغطس في الماء- ليس سوى نصب واحتيال. وبعض من اشتروا مثل هذه الأجهزة لم يستخدموها قط. ومنذ سنوات اشترت قوة حفظ السلام المشاركة في بعثة (يونيفيل) التابعة للأمم المتحدة بجنوب لبنان بعضا من أجهزة (إيه.دي.إي651) لكن سرعان ما اكتشفت أن المال ذهب هباء. وقال إندريا تنينتي المتحدث باسم يونيفيل "اشترينا أربعة من هذه الأجهزة ولم يكن أحدها يعمل. كانت أشياء بلا قيمة." أما جيم مكورميك رجل الأعمال البريطاني الذي باعت شركته أجهزة (إيه.دي.إي651) فقد أودع السجن عام 2013 أي بعد ثلاث سنوات من حظر بريطانيا تصدير هذه الأجهزة للعراق أو أفغانستان حيث كان لها جنود. وقال القاضي الذي أصدر حكم السجن إن الجهاز تم تصميمه على غرار "الأجهزة الأمريكية الفاشلة للكشف عن كرات الجولف الضائعة" وإن تكلفة تصنيعه لا تتجاوز 50 دولارا في حين أن مكورميك باع 7000 جهاز بسعر يتراوح بين 2500 دولار و30 ألفا للجهاز الواحد. وأضاف أن أحد الإيصالات يشير إلى مبيعات قيمتها 38 مليون دولار للعراق على مدى ثلاث سنوات. وقال القاضي إن سلوك مكورميك الاحتيالي ساعد في نشر شعور كاذب بالأمان وساهم على الأرجح في قتل الكثير من الأبرياء. أما جاري بولتون رجل الأعمال الذي قام بإنتاج أجهزة (جي.تي200) فقد أدين بالاحتيال وحكم عليه بالسجن عام 2013. واشترت المكسيك مئات من هذه الأجهزة. وبعد إدانة بولتون قال مسؤول بوزارة الداخلية المكسيكية إن هذه الأجهزة لم تعد تستخدم. * "هو فزاعة" في العراق -وحتى بعد مرسوم العبادي- لا تزال أجهزة (إيه.دي.ئي651) تستخدم في محافظتي صلاح الدين وديالى إلى الشمال من بغداد. وقال رائد بشرطة صلاح الدين إن قوته لم تتلق أوامر مكتوبة بالتوقف عن استخدام هذه الأجهزة. وقال آخر في ديالى إن رجاله اختبروا الجهاز بأنفسهم إذ أخفوا مسدسا وقنبلة في إحدى مركباتهم. ولم يرصدهما الجهاز. وقال نقيب الشرطة رعد شلال الذي يعمل بنقطة تفتيش قرب بلدة الخالص بمحافظة ديالى إنه كان يعرف أن جهاز الكشف عن المتفجرات عديم الجدوى. وأضاف وهو يقف قرب زميل كان يفحص العربات بأحد هذه الأجهزة "هو فزاعة أكثر من كونه كاشف متفجرات." وتهكم الإعلامي الساخر أحمد البشير على التلفزيون العراقي من فكرة أن الأجهزة يمكن أن تردع المفجرين حتى وإن كانت عاجزة عن رصد القنابل. وقال الإعلامي في برنامجه (البشير شو) "هو هذا الصحيح.. إن احنا نحط جهاز كل الكرة الأرضية يدرون انه لا يشتغل.. بس احنا نحطه حتى نخوف به الإرهابيين اللي هم ويانا على الكرة الأرضية -وما هم في كوكب تاني- ويدرون إنه لا يشتغل." وأذاع برنامج البشير مقتطفات من أقوال عدد من السياسيين والمسؤولين المدافعين عن هذه الأجهزة ومنهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي طلبت حكومته شراءها والذي قال إن الدفعات الأولى من الأجهزة كانت تعمل بنجاح لكن الدفعات اللاحقة لم تعمل. وحين أمر العبادي في الثالث من يوليو تموز بسحب هذه الأجهزة بعد تفجير الشاحنة الملغومة أعلن أيضا إعادة فتح تحقيق في عقود شرائها. وقال القاضي عبد الستار البيرقدار المتحدث باسم مجلس القضاء الأعلى بالعراق إن ضابطا عراقيا كبيرا وعددا من الضباط محبوسون حاليا بعد إدانتهم بعدة اتهامات بالفساد فيما يتعلق باستيراد أجهزة الكشف عن المتفجرات.