لم يكن متوقعاً لدى أكثر المحللين تفاؤلا أن تنتهي قمة نواكشوط إلى قرارات جريئة أو غير تقليدية تبدل شيئا من واقعنا العربي المؤلم، وأيا كانت النتائج التي انتهت إليها تلك القمة التي وضعت أوزارها قبل ساعات فلا شك في أن ظروف انعقادها كانت غير طبيعية تماماً. فإلى جانب كونها عقدت بشكل طارئ في غير أوانها أو مكانها بعد اعتذار دولة المغرب عن استضافة القمة في موعدها المحدد قبل عدة أشهر، فقد شهدت القمة غيابا واضحا للقادة والزعماء والرؤساء، مما يجعل من غير المبالغ فيه وصفها بأنها جاءت فقط حفاظا على دورية الانعقاد وانطلاقا من منطق إبراء الذمة، وانعكس ذلك بالقطع على قراراتها النمطية والتقليدية. بالفعل ليست مبالغة ولكن مع الأسف الحديث عن أسس جديدة أو حتى تكميلية لبناء الثقة والأمن بين الدول العربية في المرحلة الراهنة بات أقرب إلى البحث عن قطة سوداء في غرفة شديدة الظلام، فضلا عن أنه محفوف بالمخاطر نتيجة التشرذم الذي تعاني منه الأمة العربية، تاركة وراءها واقعا جديدا لم تتشكل معالمه ولا ملامحه بعد، ويحتاج إلى نهج جديد لصياغة منظومة متكاملة لمفاهيم الأمن القومي والأمن الوطني والشرعية والسيادة والتعايش المشترك والدفاع الجماعي، ويعني ذلك ببساطة أن الأمة العربية على وجه التقريب في حاجة إلى عقد اجتماعي جديد يحكم العلاقات فيما بينها ومع العالم الخارجي. أصبح الحديث عن سياسة عربية مشتركة تجاه العالم الخارجي بلا جدوى، وأغلب الظن أن هذه الحقائق أدت إلى تصعيد خطير إلى ما نحن فيه الآن من مواجهات مريرة مع الإرهاب وحروب أهلية داخلية تأكل الأخضر واليابس في اليمن والعراق وسوريا وليبيا، وتضعف من طاقات الأمة العربية في بلوغ أهداف أفضل. فضلا عن أوضاع متوترة - سياسية واقتصادية- في دول أخرى تجعل من الاستقرار أمرا في حاجة إلى مزيد من الجهد والعمل المتواصل تجنبا لما هو أسوأ على أقل تقدير، وإذا كانت قمم عربية عدة قد فتحت باب الأمل أمام فرص العمل العربي المشترك والبناء في مواجهة تلك الأوضاع الصعبة بتأكيدها على الثوابت إلا أن تلك الآمال كانت مجرد خطوة أولى يجب أن تسبقها أو تصاحبها وأيضا تعقبها خطوات أخرى. وإذا كان الحديث مجددا عن تدعيم الأمن وبناء مزيد من الثقة بين الدول العربية، فلا شك في أن الدول العربية بحاجة إلى تصرفات إيجابية تناقض المواقف والتصرفات السلبية التي وصلت بها إلى هذا الوضع الذي لا تحسد عليه، فإلى جانب الإجراءات الجماعية التي تحدثنا عنها، فإن الأمة العربية في أمس الحاجة أيضا إلى إعلاء قيم احترام إرادة الشعوب وسيادة الدول. فلابد من الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول مهما كانت الظروف، وإذا كان ولا بد فليكن هذا التدخل بشكل إيجابي وجماعي وبقبول من كل الأطراف المعنية، أما احترام إرادة الشعوب فيبني بشكل أساسي على حقها في اختيار طبيعة نظمها وحاكميها بحرية تامة دون محاولات فرض من الخارج بالقوة بزعم الإصلاح أو التغيير القسري. بالتأكيد هناك كثير من التمنيات الطيبة فيما يتعلق بطرح هذه التصورات، وهناك أيضا صعوبات شديدة وكثيرة في مناقشتها لأسباب عديدة لعل في مقدمتها اختلاف طبيعة النظم السياسية والأنماط الثقافية للدول العربية، مما يجعل الحديث عن شكل ديمقراطي موحد للحكم في كل الدول العربية أمرا صعب التنفيذ، ومن هذا المنطلق يظل احترام إرادة الشعوب وسيادة الدول من الأمور المهمة جدا للحيلولة دون التدخل في شؤون الآخرين وعدم فتح الباب أمام تدخلات الدول الخارجية التي لن تسعى إلا لتحقيق مصالحها الخاصة بالتأكيد حتى على المصالح العربية العليا. ولكن إذا كانت هناك بالفعل تمنيات زائدة في هذه الأفكار الحالمة، فهذا ليس عائقا أمام حتمية محاولات تنفيذها لوضعها موضع التنفيذ، فالتحرك الإيجابي وصولا إلى واقع جديد يحمي المصالح العربية ويصون بقاءها أفضل من حالة السكون التي ستؤدي بالقطع إلى مزيد من التدهور والتفسخ حاضرا ومستقبلا، وإذا كانت الأمة العربية قد خسرت الكثير والكثير على مدار العقود الماضية نتيجة الصراعات والخلافات والحروب، فهذا أيضا ليس عائقا أمام التطلع إلى مراحل أفضل وأكثر فاعلية من العمل العربي الجماعي والمشترك. ولابد أن تكون هناك خطوات جادة لإصلاح جامعة الدول العربية إصلاحا فعليا وشاملا لإيجاد صيغة عملية وفاعلة لمنظومة الأمن القومي العربي، ومن الأهمية بمكان أن يشمل الإصلاح كذلك مؤسسة القمة العربية من خلال الإيمان بأهميتها ودورها في حسم الكثير من القضايا العربية، ولا يجوز حتى اليوم أن نتحدث عن قمة بمن حضر أو قمة حفاظا على دورية الانعقاد،وليت قمة نواكشوط تكون الأخيرة من هذا النوع حتى لا تصبح القمم المقبلة مجرد إبراء ذمة.