في الأيام الماضية ودعنا معلمًا بعد أن قضى 31 سنة وهو يمارس مهنة «السوبر مان»، فمن باب الوفاء أقمنا له حفلًا تكريميًا، طبعًا لا يخفى عليكم البروتوكولات والطقوس الرسمية في مثل هذه المناسبات «والآن مع الكلمة الضافية، والآن مع الكلمة الوافية، الكافية!! الشافية!!»، مع هذا الجو الكلماتي قررت أن أسلّي نفسي بنفسي، فتقمصت شخصية المعلم المتقاعد وتخيلت نفسي أنني المُحتفى به وأنهم قدموني لألقي خطابي الأخير، طبعًا طالما الموضوع خيال في خيال فقد أطلقت لمخيلتي العنان: « أيها الحضور الأكارم.. أقف بين يديكم وقد مضى على تدريسي 31 سنة، وأنا أسابق الديوك أيّنا يستيقظ أولًا، ولا أرجع إلى المنزل إلا وقد اختبأ الضب في جحره، أعتذر لكم على هذا المجاز الحيواني لكنني متأثر بقناتي المفضلة ناشيونال جيوغرافيك، أداوم في كل الظروف المناخية مع هبات السموم الحارة، في الشتاء البارد ومع زخات المطر «للأمانة بإمكانكم شطب الجزء الأخير لأن الدراسة تعلق»، معلومات أغرفها من الكتب وعبثًا أحاول دفنها في عقول الطلاب إلا أنها تأبى ذلك القدر المعلوماتي ليعلن عن صراع لا ينتهي ومعركة دائمة متجددة بين الجهل الظلامي والعلم النوراني، لقد كانت المعارك طاحنة وشديدة وأبشركم أنه قد وقعت هناك خسائر وأضرار مادية ومعنوية من كلا الطرفين، لقد شاب الشعر واحدودب الظهر، وما زلت واقفًا رافعًا رايتي، فبماذا أُكافأ بعد كل هذا؟؟ وما الذي أحصل عليه؟؟ فتات يسمونه «مكافأة نهاية الخدمة» لا تكفي لشراء سيارة كورولا؟؟ يا رجل لو أخذت ريـالا واحدا من كل طالب قمت بتعليمه لنافست شركة أبل في الثراء.. لقد أخذوني لحمًا ورموني عظمًا.. وأنتم هنا يا من أعددتم وحضرتم الحفل، تفرحون؟؟ تبتهجون؟؟ مفاطيح وشربات وحلويات وأم علي!! كل هذا ابتهاجًا برحيلي، لقد كنت معكم طول هذه الفترة، لم تكافئوني إلا بحصص الانتظار والأنصبة العشرينية، سحقا لكم، يا»!!! لم يقطع خطابي التخيلي إلا وكزات صاحبي.. «يا رجل، انتهى الحفل، هيا بنا للعشاء، لم أتوقع أنك ستتأثر إلى هذا الحد بالكلمات الضافية»، رددت عليه.. نعم، تأثرت كثيرًا، كثيرًا، وهمست لنفسي.. كم أكره شوقي وسخريته المبطنة؟؟ كيف لهذا المخلوق المترنّح «أن يكون رسولاً»؟؟