في عراقٍ مُرَكَّع قسراً لِعّدوِّه الأزلي وتتناهب خيراته أيدي الفاسدين من الساسة وتعبث بأمنه حثالات أداة الإجرام داعش وبنادق الميليشيات الطائفية تمر بالبال مقولة الحكيم الآشوري أحيقار والذي كان وزيراً لملك اشور ونينوى سنحاريب بن اسرحدّون في جملةٍ تختصر الكثير مما جرى قروناً طويلة على أرض العراق العظيم ونراه هذه الأيام بشكلٍ جلي في ظهوره وفي قُبحه وكثرة الضباع المتربصة فيه: يا بني مع الحكيم لن تَفْسُد ومع الفاسد لن تكون حكيماً، يا بني إن القطيع الـمُبدَّدَ في الفَلوات يكون من نصيب الذئاب! منذ أكذوبة أسلحة الدمار الشامل التي رفعها سيئا الذكر جورج دبليو بوش وتوني بلير وقاما على إثرها بغزو العراق عام 2003 من أجل التخلص من الحكم الديكتاتوري لحزب البعث وإدخال البلد لنعيم الديمقراطية الغربية، الغرب الذي لو جمعت تاريخه بأكمله فلن يوازي رُبع تاريخ العراق العظيم وإسهامه في كل الحضارات بمختلف حقبها وأزمنتها، والتي بعد أن انقشع غبار جحافل الغزاة وصوت بنادقهم وقصفهم الذي لم يُفرِّق بين مبنى عسكري وصدر طفلةٍ بريئة لم يجد الناس إلا الدمار والانقسام المجتمعي الداخلي والانهيار الاقتصادي وفوضى سياسية غير مسبوقة ولا تليق بعظمة بلدٍ قاد حضارات الدنيا قروناً طويلة! تمخضت حرب بوش وبلير لـعصرنة العراق وتحريره عن مليون قتيل وأكثر من خمسة ملايين يتيم وعدد مقارب من النازحين والـمُهَجَّرين واللاجئين، وأصبح البلد في ذيل دول العالم على مؤشرات العدالة الاجتماعية والأمن والشفافية والتعليم والرعاية الصحية بل وحتى في توفير الماء الصالح للشرب والكهرباء في بلدٍ يملك حالياً ثالث أكبر احتياط نفط في العالم وكان أيام الرشيد تضاء الطرقات المرصوفة في بغداد بالسُرُج عندما كانت كل أوروبا مظلمة فكراً وواقعاً! عراق اليوم يعتبر جوازه ثالث أسوأ جواز سفر في العالم حسب مؤشر هينلي آند بارتنرز، وحسب التقرير السنوي لمنظمة الشفافية العالمية يقع العراق ضمن الدول العشر الأكثر فساداً في العالم ووضعته مجلة Forbes كثامن أفسد حكومة عالمية، إضافة لانعدام حرية الصحافة والإعلام والامتثال التام للقرار السياسي للعدوة الأزلية إيران، بالإضافة إلى سيطرة الميليشيات على مفاصل الدولة وتسليم نوري المالكي رئيس الوزراء السابق والمحرّك الفعلي للحكومة حالياً لما يقارب من ثلث مساحة العراق في المدن السُنّية لتنظيم داعش الإرهابي في تمثيليات هروب مضحكة! العراق الديمقراطي اليوم والذي يحكمه من أتوا فوق دبابات المحتل وشارك بعضهم في الحرب مع إيران ضد العراق كهادي العامري زعيم فيلق بدر التابع للحرس الثوري الإيراني والذي أصبح وزيراً للعراق في عهد المالكي، رغم أنه يمتلك احتياطياً نفطياً يُقدّر بحوالي 143 مليار برميل وهناك تقدير من 50 إلى 200 مليار برميل لم تُكتشَف بعد يقع ثلث السكان فيه تحت خط الفقر وتزيد البطالة عن 16 % ويزيد الدين الخارجي على 58 مليار دولار، وتشير التقارير إلى أن خسائر العراق من النفط المهرب والمصدّر بطرق غير شرعية إلى الخارج منذ عام 2003 أي عام التحرير والديمقراطية بحوالي 120 مليار دولار، وكشف تحقيق أجرته صحيفة هافينغتون بوست وفيرفاكس ميديا لآلاف الوثائق أن حكومة نوري المالكي نهبت من أموال البلاد أكثر من نصف تريليون دولار بصفقات فساد تحت غطاء عقود نفطية، والكارثة أن حقول العراق تُنتِج يومياً نحو 1.68 مليار قدم مكعب من الغاز المصاحب للنفط حسب إحصائيات 2015 لكن يتم إحراق 1.3 مليار قدم مكعب منها لعدم توفر المنشآت المعالجة، وهو بذلك رابع أكثر دولة تحرق الغاز عالمياً، ويخسر من الحقول الجنوبية لوحدها 2.5 مليار دولار سنوياً! قبل أيام زار أشتون كارتر وزير الدفاع الأميركي بغداد ليُعلن عزم بلاده إرسال 560 جندياً إضافياً للعراق للمشاركة دون طلب إذن بالتأكيد في تحرير الموصل من داعش، الأمر الذي أشعل غضب ميليشيات الحشد الشعبي وقادتها والذين تبياناً لرفضهم لهذا القرار والذي قد يكبح نهجهم الإحرامي في التعامل مع المدن السنية والتي كان آخرها إعلان الأمم المتحدة لفقدان 740 رجلاً وطفلاً من أهالي الفلوجة كانوا محتجزين لدى الحشد فوق المجازر التي ارتكبوها، قامت ميليشياتهم باستعراض عسكري في شارع السعدون بالعاصمة بغداد في رفع للغة التحدي وأنّ من يُحرّك القرار السيادي ليست أميركا ولكن الميليشيات التابعة لإيران ومندوبها المالكي! الحشد الشعبي والذي ارتفعت ميزانية رواتبه من الحكومة هذا العام من 1.2 مليار إلى 2.6 مليار دولار وكان ولا زال يأتمر بأوامر قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، يخلق لنفسه بمباركة الحكومة العراقية وضعاً كبيراً على الساحة في خطوة قد تكون لدفعه للواجهة السياسية في التشكيل الحكومي المقبل بدلاً من الأحزاب الشيعية المعتدلة، في رد لمطالبات الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بمحاسبة المفسدين في الحكومة وتأييد قطاعات كبيرة من الشعب لهذه المطالبات وهي التي جعلها حيدر العبادي رئيس الوزراء الحالي أولوية أولى لحكومته قبل أن يرضخ لضغوط الكتل السياسية الرافضة للتعرض لمصالحها، ويتجه لتحرير المدن والقرى من تنظيم داعش ويصرّ على مشاركة الحشد الشعبي في معركة الموصل رغم تسرّب الأخبار بأن هناك اتفاقاً تم للسماح لداعش للخروج بأمان كما يحدث دوماً ليتم التنكيل والتهجير للسكّان الأبرياء من العراقيين السنة! العراق مهدّد بالتشظّي لدويلاتٍ عِدّة ولا يبدو أن الساسة هناك مهتمين كثيراً ما دامت جيوبهم تمتلئ بشكل يومي، بل ولا يبدو هناك أي شكل لخطة لإخراج البلد من حالة الاستقطاب الطائفي وانسداد المستقبل، وإن وجود الغنى الفاحش بجانب الفقر المدقع في مجتمعٍ واحد يؤدي إلى الانفجار عاجلاً أو آجلاً، كما يقول المفكر الكبير علي الوردي، رحمه الله، فالعراق المحتلّ لم يبقَ له من رهان سوى شعبه العظيم والوطنيون الأوفياء لإنقاذه.