تخيل أخي القارئ أنك في رحلة استكشافية لأوروبا الوسطى في القرن الخامس عشر، فماذا ستجد أمامك؟ ستجد الدولة العثمانية والآراء المنقسمة من حولها، فمنهم من يراها السيدة التي تحمل الجينات الآسيوية والأوروبية معا وتتمتع بالقوة، وما هي إلا سنوات وقرون حتى أصابها المرض وبددت تلك الثروة أمام منافسيها من الروس والأوروبيين، ومنهم من يراها الدولة الإسلامية الوحيدة آنذاك التي أثرت في السياسة الدولية، كما ذكر أستاذنا محمد السيد سليم في كتابه "تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين". ستة قرون مضت والدولة العثمانية من خلالها نمت من إمارة "سلجوقية" شابة في القرن الخامس عشر إلى سيدة في حيرة من أمرها في القرن السادس عشر، فتتطلع إلى الشرق تارة راغبة في استمالة دول العرب والإسلام ورادعة للأطماع البرتغالية التي بدأت بالاقتراب من المحيط الهندي الدافئ، وإلى الغرب تارة أخرى لاستفزاز جاراتها المنحدرات من الأصول الروسية والبريطانية متباهية بعلاقاتها بالعالم العربي. استطاعت تركيا العثمانية، وهي في سن الشباب، الاقتراب من معظم الدول العربية، عدا بعضها كالمغرب العربي رغم تصديها للهيمنة الإسبانية أو بسبب ذلك، وتصدت للدولة الصفوية، وفرضت نفوذها في أواسط أوروبا، وحاربت إمبراطوريات أوروبية مقدسة، وأوجدت لها عاصمة أوروبية (بيزنطة)، بل وصلت في أحلامها إلى فيينا، فلم تستطع ابتلاعها، فهل السبب إصابتها بالتخمة؟ أم عامل السن وضعف الموارد؟ أم صعود الدول المنافسة كفارس وروسيا والإمبراطورية الرومانية؟ أم هو التوسع المفرط في النفوذ الذي يخلق نقاط ضعف تغفل عنها الدول؟ انتهى الأمر بتقويض الدول الأجنبية أحلام الشابة السلجوقية التي أصبحت سيدة عثمانية أصابتها أمراض الشيخوخة، فانتفضت الأقليات ضدها في الأقاليم بمساعدة الدول المجاورة، وذهب أغلب الباحثين وقتها إلى الأسباب السياسية ونظريات المؤامرة، متناسين أهمية المنافسة بالتعليم والتقدم التكنولوجي وحماية البيئة الداخلية من التدهور الإداري، وهو ما حدث للدولة العثمانية وساهم في كتابة الفصل الأخير لهذه الشابة السلجوقية التي قادتها الأطماع والمسؤولية معا إلى الشعور بالعظمة، ناسية أم متناسية أن صعود الدول تصاحبه مشاريع أزمات تفرضها الدول الأخرى خوفا من التسلط، ورغبة في التوازن المصحوب بالأنانية تارة، والمخاوف تارة أخرى. اليوم تتعدد الآراء حول تركيا، فالبعض يراها قد استعادت شبابها باللباس المدني وقيود القانون الدولي، وتطلعت إلى البوابة الأوروبية للانضمام إلى النادي الأوروبي فرفضت عضويتها واكتفت بامتلاكها مفاتيح البوابة لتتحكم في الملايين المهاجرة من آسيا إلى أوروبا، والخريطة الديمغرافية الأوربية الجديدة، ونجحت في تسويق نفسها بحذر لدى العالم العربي الذي لطالما غض الطرف عن تعددية تركيا بسياستها الخارجية وشأنها المحلي، حتى جاءت الأحداث الأخيرة فكشفت الرؤى المتعددة والزوايا المتداخلة لتركيا الإسلامية والعلمانية في الوقت ذاته، المدافعة عن قضية العرب والرافعة لعلم إسرائيل أيضا في الوقت ذاته، وإن كان قد اتهمها البعض بتأخرها عن الركب التكنولوجي قديما فها هي اليوم تتغلب على انقلاب عبر الوسائل التكنولوجيه وخطاب رئيس الدولة الذي تخطى الرسميات ووصل للمواطن التركي عبر الـ"فيس تايم"، فهل هي مرحلة لتغليب التطور والحداثة على النزاع السياسي؟ أم هي رحلة جديدة لتركيا الباحثة عن شبابها وهويتها واستقرارها في عالمنا المتغير؟ كلمة أخيرة: البعض يعتقد خاطئا أن مبدأ التعلم مدى الحياة مرتبط فقط بالمردود المادي والتمكين الوظيفي، ويغفل عن حاجة النفس إلى اكتساب المهارات والعلم والمعرفة، فتحية وتقدير للمنتسبين إلى برامج التعليم المستمر وتطوير المهارات.