ديك الجن لقب أبي محمد عبدالسلام بن رغبان بن عبدالسلام بن حبيب بن عبدالله بن رغبان بن زيد بن تميم الحمصي السلماني الكلبي ولاءً (161 - 235هـ).. والمولى حقيقة من عتق عن رق شرعي، ويصدق ذلك على من عرف مواليه من العرب؛ فيقال: التميمي، أو العقيلي، أو الحكمي ولاءً، أو مولاهم؛ ولأن من سوى العرب هم موضوع الرق بعد الفتوح الإسلامية عمموا الولاء في كل الأجناس؛ فصار كل من استعرب أو أسلم مولى!!.. وهذا من الظلم العربي، ومن بواعث الشعوبية، بل الولاء حلف وعتق.. وهو حمصي؛ لأنه ولد ومات بها، وهو سلماني لأن أصل آبائه من سلمية قرب حماة، وقيل: إنهم من مؤتة.. ذكروا أن جده الأعلى دخل في الإسلام وشهد مؤتة عام 8هـ؛ فلعل ذلك هو جده تميم، فهو أعلى جد له عرف؛ وبما أن القرن فيه ثلاثة أجيال، فذلك يليق بزمن جد تميم؛ إذ فوق (ديك الجن) سبعة آباء إذا حسبت أجيالهم منذ وفاة (ديك الجن) تحقق أن تميماً أدرك مؤتة.. قال الدكتور عمر فروخ في كتابه تاريخ الأدب العربي 2 / 271 طبعة دار العلم للملايين/ الطبعة السادسة عام 1992م: (ويبدو أن أسلافه انتقلوا فيما بعد إلى سلمية، وتأثروا فيها بالدعوة الفاطمية، ثم انتقل قوم منهم إلى حمص). قال أبو عبدالرحمن: هذا سر تشيعه.. إلا أنه فيما يقال: كان معتدلاً.. والمهم أنه لم يفارق بلاد الشام، ولم ينتجع بشعره.. سمي ديك الجن؛ لأن عينيه كانتا خضراوين.. ذكر كل ذلك ابن خلكان، ولا يزال التعليل مشكلاً؛ لأن الديك وحده غير مضاف أحمر العينين لا أخضرهما، والإضافة إلى الجن لا تزال محتاجة إلى التعليل.. وقال الصفدي: (قيل: إنه كان أشقر، أزرق العينين، ويصبغ حاجبيه بالزنجار، وذقنه بالحناء؛ ولذلك قيل له: ديك الجن). ويظهر من مادة الزنجار في تاج العروس، والمعجم الوسيط: أنه صبغ على لون صدأ النحاس، وترجمة ديك الجن في الوافي بالوفيات 18 / 423 نشر دار فرانز شتاينر شتوتغارت بألمانيا ط م دار صادر ببيروت 1411هـ.. وترجم لديك الجن ابن شاكر الكتبي في عيون التواريخ، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن خلكان في الوفيات، والذهبي في سير أعلام النبلاء، والصفدي في الوافي، وغيرهم.. ومن المعاصرين خليل مردم بك في شعراء الشام، وفي معجم المؤلفين لكحالة 5 / 224 دار إحياء التراث العربي ببيروت مع إحالة إلى بعض الدراسات عنه في الدوريات.. وقصر خير الدين الزركلي رحمه الله تعالى في ذكر مصادره؛ فلم يذكر غير وفيات الأعيان.. انظر: الأعلام 4 / 5 دار العلم للملايين الطبعة الثالثة عشرة عام 1998م.. ونسب له أبو حيان التوحيدي بيتين سافلين في الإمتاع والمؤانسة 3 / 34 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1373هـ بمصر طبعة مصورة توزيع المكتبة العصرية بصيدا.وترجم له مؤرخو الأدب العربي منذ بروكلمان مثل جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية 2 / 89 - 91 / دار الفكر ببيروت/ طبعتهم الأولى عام 1416هـ بإشراف يوسف البقاعي.. وترجم له مصنفو الموسوعات ودوائر المعارف.. وأما الدراسات عنه في الكتب والدوريات فكثيرة جداً، وقد أحلت إلى مراجع كثيرة (لم أذكرها ههنا) حسب حاجة الجوانب التي درستها من شعره وحياته، وبقية المصادر مذخورة لدراسات أخرى إن شاء الله. قال أبو عبدالرحمن: لعلهم جعلوا الحاجب المصبوغ بهيئة عرف الديك، وجعلوا هذه الأصباغ المتعددة مع الزرقة الطبيعية مخرجة له عن التشبيه بديك طبيعي؛ فجعلوه ديك جن؛ لأن ديك الجن لا يعرف له شكل، وعادة العرب والعامة إضافة كل مستغرب وما ليس بسوي إلى الجن.. وقيل: إن ثيابه أيضاً خضر، وأنه يصبغ لحيته بالزنجار.. قال ذلك سعيد بن زيد الذي دخل على ديك الجن ليكتب شعره، وذكر سعيد أن ديك الجن جيد الغناء بالطنبور.. وكان جده حبيب كاتباً للمنصور كما في تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان 2 / 77 ترجمة الدكتور عبدالحليم النجار/ دار الكتاب الإسلامي بقم في إيران/ الطبعة الثانية- عن كتاب الوزراء للجهشياري. وعللوا عدم مغادرته الشام بشعوبيته؛ لأنه كان يتعصب لأهل الشام على العرب ذاهباً مذهب الشعوبية؛ ومن ثم لم يتم له عزم على مغادرة وطنه كما في تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 2 / 77، ولعل ذلك عن معجم الشعراء للمرزباني. قال أبو عبدالرحمن: المشهور عنه أنه شديد الشعوبية، وأنه يقول: ما للعرب علينا فضل.. جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم (عليه وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام)، وأسلمنا كما أسلموا، ولم نجد الله فضَّلهم علينا بعد أن جمعنا الإسلام!!.. هكذا نقل عنه أبو الفرج الأصفهاني؛ فديك الجن إذن على مذهب ما ادُّعي للفرس ثم ادعوه فيما بعد أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام. وذكر المرزباني: أنه ومحمد بن سلامة الدمشقي أشعر شعراء الشام. قال أبو عبدالرحمن: المطبوع من شعر ديك الجن قليل جداً، وهو ما بين جميل مجنح، وعادي، ومتكلف.. وكلمات نقده وتقريظه فخمة جداً لا يتحملها شعره المطبوع، وهو كله مجموع من بطون الكتب المطبوعة والخطية؛ فظننت أن أكثر شعره ضائع كما قيل عن شعر بشار.. حتى تفقهت في مأخذ ذلك التقريظ الفخم؛ فعلمت أن ما ضاع منه لن يكون كثيراً؛ لأن الهمة في جمع شعره بدأت من معاصره سعيد بن زيد الحمصي، ولأن مخطوطة السري الرفاء من الديوان قريبة عهد بديك الجن، ولأن نماذج تقريظه الفخم من الشعر الذي لم يضع، والمطبوع من شعره لا يمثل سمعته الأدبية؛ لقلته؛ فقد ذكر الدكتور عمر فروخ أن الأستاذ عبدالمعين الحلوجي، ومحيى الدين الدرويش طبعا ديوانه بلا اسم لمكان الطبع ولا تاريخ، وجمع ديوانه أيضاً أحمد مطلوب وعبدالله الجبوري، وصدر عن دار الثقافة ببيروت عام 1964م.. وجمعه أيضاً يعقوب العويدات، وطبع بمصر ط م المقتطف والمقطم عام 1948م، وطبع بتحقيق أنطوان محسن القوال نشر دار الكتاب العربي ببيروت/ طبعتهم الثانية عام 1415هـ، وجاء في المستدرك على صناع الدواوين للدكتور نوري القيسي والأستاذ هلال ناجي 1 / 363 عالم الكتب ببيروت الطبعة الأولى عام 1420هـ: أن طبعة عبدالمعين الحلوجي وزميله صدرتا في حمص عام 1960م، وأنهما جمعاه، وأنه ضم 417 بيتاً جمعاها من شتيت المظان.. وذكر أن جمع الدكتورين أحمد مطلوب وعبدالله الجبوري ضم 641 بيتاً.. أي بزيادة 224 بيتاً منها 156 من علوياته نقلها من خط محمد السماوي الذي جمع العلويات، و68 بيتاً من المظان.. كما أن دار الثقافة البيروتية ناشرة الديوان استدركت أيضاً ثلاثين بيتاً من المرجح أنها من استدراك الدكتور محمد يوسف نجم، وكتب عن ديك الجن وجمع شعره الأستاذ مظهر الحجي طبعة وزارة الثقافة بدمشق/ سلسلة إحياء التراث عام 1987م. قال أبو عبدالرحمن: عمدتي في دراساتي لديك الجن ديوانه بتحقيق أنطوان القوال، ومستدرك الدكتور نوري القيسي وزميله..، ثم يسر الله لي الاطلاع على جميع تلك المصادر؛ فوجدت أن القيسي وزميله إنما استدركا على ما جمعه الحلوجي وزميله، وما جمعه أحمد مطلوب وزميله أبياتاً من قصيدة موجودة في الديوانين أو أحدهما.. واستدركا ترتيباً، واستدركا قصائد ومقطعات، ونسبا له هذين البيتين: خيار لون قد أتى أبيض ترى منه العجب يحكى سبائك فضة فيها شذور من ذهب قال أبو عبدالرحمن: حشو (فعول) بدل (فعولن) موجود في هذا البحر؛ ولكنه يتحول موسيقياً بالنطق إلى جعلها على وزن (فعولن) بتصرف في النطق إلا أن تكون (فعول) لا زمة في كل بيت؛ فتكون لحناً آخر.. وقال أحمد مطلوب وزميله: (نقلناه من مقالة الأستاذ محمد يحيى زين الدين المنشورة في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ج 1 م 51 ص 152 - 153.. أي عن مخطوطة روضة الأديب ونزهة الأريب الورقة 73، وفي النفس منها شيء)، ونقلا عن خصائص ابن جني هذا البيت: لم تُبْل جِدَّة سُمرهم سُمْرٌ ولم تَسِمِ السَّمومُ لأُدمهنَّ أديما سمرهم بمعنى السمر منهن جمع سمراء، والسمرة سواد خفيف يكون بين السواد والبياض.. وقال العقيلي الذي روى عنه ابن جني: (هن بمائهن كما خلقنه) كما في الخصائص لابن جني 2 / 119 المكتبة العلمية تصوير طبعة دار الكتب المصرية بتحقيق محمد علي النجار والنسبة إلى الحمصي، ولم يحقق المستدركان أن المراد ديك الجن.. على أن محقق طبعة الخصائص بيَّن أنه ديك الجن، ودليله منهج ابن جني في العزو إلى شعر لديك الجن، وهو محقق أنه شعره بمجرد النسبة إلى الحمصي. قال أبو عبدالرحمن: لم يطبع ديوان ديك الجن عن نسخة خطية بخط أو إملاء الشاعر، أو نسخة من خط معاصر له، أو نسخة مسندة إليه بالسند المتصل.. وأشار الأستاذ هلال ناجي إلى نسختين خطيتين مفقودتين: الأولى ما اطلع عليه السري الرفاء -وهو من رجال القرن الرابع الهجري-؛ فقد قال في كتاب المحبوب (1 / 59) عن قصيدة للعباس بن الأحنف: (وقد قرأتها في ديوان ديك الجن، والعباس أولى بها).. والثانية صنعة علي بن محمد بن المطهر العدوي الشمشاطي المتوفى في أواخر القرن الرابع الهجري حسب مقدمة كتاب الأنوار ومحاسن الأشعار بتحقيق الدكتور السيد محمد يوسف. قال أبو عبدالرحمن: يبعد أن تكون نسخة السري المتوفى عام 312هـ هي ما صنعه الشمشاطي المتوفى سنة 380هـ؛ لأن ديك الجن ولد عام 161هـ، وتوفي سنة 235 (وقيل: سنة 236هـ.. وقيل سنة 240هـ)؛ فنسخة السري قريبة من عصر المؤلف، وهو أقدم من الشمشاطي.. والصنعة تعني الرواية، أو الشرح، أو الترتيب، أو كل ذلك؛ فمن المحتمل أن الشمشاطي جمع ديوان ديك الجن استئنافاً من المصادر، أو وصل إليه بالرواية والسند، أو شرح نسخة خطية (نسخة السري، أو غيرها).. ونقل الأستاذ هلال ناجي عن وفيات الأعيان لابن خلكان، ومرآة الجنان لليافعي: أن ضياء الدين ابن الأثير (وهو من رجال القرن السابع) جمع المختار من شعر أبي تمام والبحتري وديك الجن.. ومن اللفتات النقدية الفخمة قول لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني (390 - 456 هـ) - وبينه وبين ديك الجن 155 سنة - يذكر فيه لديك الجن حضوراً أدبياً، وتأثيراً مع سوء حظ في شهرته؛ فإنه لما فرغ من طبقة أبي نواس قال: (وأما طبقة حبيب والبحتري وابن المعتز وابن الرومي: فطبقة متداركة (يعني يتبع بعضها بعضها، وذلك وصف لكل طبقة؛ فالوصف تحصيل حاصل، وهو فضولي) قد تلاحقوا، وغطوا على من سواهم؛ حتى نسي معهم بقية من أدرك أبا نواس كابن المعذل، وهو من كبار المحدثين وصدورهم المعدودين.. غمره حبيب ذكراً واشتهاراً.. وكأبي هفان أيضاً أدرك أبا نواس، ولحق البحتري؛ فستره.. وكذلك الجماز، وللجماز يقول أبو نواس: سقِّني يا بن أذين من سلاف الزرجون وديك الجن وهو شاعر الشام لم يذكر مع أبي تمام إلا مجازاً، وهو أقدم منه، وقد كان أبو تمام أخذ عنه أمثلة من شعره يحتذي عليها؛ فسرقها).. (العمدة 1 / 213 - 214 دار المعرفة ببيروت طبعتهم الأولى عام 1408هـ). قال أبو عبدالرحمن: التعاصر، والسبق الزمني بعقد أو عقدين لا علاقة له بالاستواء في الكفاءة الشعرية، وكل من ذكرهم كابن المعذل والجماز وديك الجن.. إلخ: لم ينسوا، بل هم في ذاكرة المؤرخين والأدباء، وشعرهم مروي مستشهد به.. ولكن أدبهم المذكور غير المنسي دون أدب الأعلام كأبي تمام والبحتري، ولا مقارنة بين شعر ديك الجن القليل ببحر أبي تمام مجدد عصره؛ حتى ينعى حظه بأنه لم يذكر مع أبي تمام إلا مجازاً!!.. وأما أخذ أبي تمام عن ديك الجن على سبيل السرقة أمثلة يحتذي عليها فدعوى عارية جداً؛ فأين تلك الأمثلة من شعر ديك الجن التي سرقها أبو تمام؟!!.. ثم إن أبا تمام حامل مشعل الحداثة في عصره؛ فإذا كان ديك الجن -وأنى لفقر ديك الجن أن يرفده!!- من رواده: فلا بد من تتلمذ تاريخي طويل الأمد مسجل، ونماذج شعرية موروثة مروية معروف فيها السابق واللاحق.. والمشهور لقاءات لديك الجن بأساتذة جيله لا تسر.. قال ابن رشيق في العمدة 1 / 391 - 392: (حكي أن دعبل بن علي ورد حمص، فقصد دار عبدالسلام بن رغبان ديك الجن؛ فكتم نفسه عنه خوفاً من قوارصه ومشارته؛ فقال: ما له يستتر وهو أشعر الجن والإنس، أليس هو الذي يقول: بها غير معذول فداو خمارها وصل بعشيات الغبوق ابتكارها ونل من عظيم الردف كل عظيمة إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها فظهر إليه، واعتذر له، وأحسن نزله.. ثم تناشدا، فأنشد ديك الجن ابتداء قصيدته: كأنها ما كأنه خلل الخلة (م م) وقف الهلوك إذ بغما فقال له دعبل: أمسك عليك؛ فوالله ما ظننتك تتم البيت إلا وقد غشي عليك، أو تشكيت فكيك.. ولكأنك في جهنم تخاطب الزبانية، أو تخبطك الشيطان من المس.. وإنما أراد الديك أن يهول عليه، ويقرع سمعه؛ عسى أن يروعه ويردعه؛ فسمع منه ما كره أن يسمعه.. ولعمر الله ما ظلمه دعبل، ولقد أبعد مسافة الكلام، وخالف العادة.. وهذا بيت قبيح من جهات: منها إضمار ما لم يذكره من قبل ولا جرت العادة بمثله؛ فيعذر، ولا كثر استعماله؛ فيشهر.. مع إحالة تشبيه على تشبيه، وثقل تجانسه الذي هو حشو فارغ لو طرح من البيت كان أحزم، واستدعاء قافيته لا لشيء إلا لفساد المعنى واستحالة التشبيه.. وما الذي يزيد بغامه في تشبيه الوقف وهو السوار، ولم كان وقف الهلوك خاصةً؟!.. ومعنى البيت أن عشيقته كأنها في جيدها وعينها الغزال الذي كأنه بين نبات الخلة سوار الجارية الحسنة المشي، المتهالكة فيه، وقيل: (الهلوك البغي الفاجرة؛ فما هذا كله، وأي شيء تحته؟؟).. وذكر ابن رشيق (1 / 487 - 488) غلبة ظاهرة الرثاء عند ديك الجن.. قال: (لا بد لكل شاعر من طريقة تغلب عليه؛ فينقاد إليها طبعه، ويسهل عليه تناولها: كأبي نواس في الخمر، وأبي تمام في التصنيع (يريد الصنعة البديعية)، والبحتري في الطيف (أي خطور الخيال في المنام)، وابن المعتز في التشبيه، وديك الجن في المراثي، والصنوبري في ذكر النور والطير، وأبي الطيب في الأمثال وذم الزمان وأهله.. وأما ابن الرومي فأولى الناس باسم شاعر لكثرة اختراعه، وحسن افتتانه.. وقد غلب عليه الهجاء حتى شهر به؛ فصار يقال: أهجى من ابن الرومي.. ومن أكثر من شيء عرف به، وليس هجاء ابن الرومي بأجود من مدحه ولا أكثر؛ ولكن قليل الشر كثير). قال أبو عبدالرحمن: أسلفت أن المرجح عدم ضياع شعر ديك الجن في الكلام عن ديوانه.. والشاعر المشهور قد يضيع شيء من شعره، ولكن الجيد يبقى.. وليس الرثاء في شعر ديك الجن بأكثر ولا أبلغ ولا أجود.. وكل ما هنالك رثاؤه للجارية في القصة الأسطورة، والمراثي له في جارية وغلام.. وذلك الرثاء منه الجيد ومنه العادي، وتميزت رثائيات له في الحسين بن علي رضي الله عنهما وفي أبيات منهن ما تنوح به الشيعة، وكل ذلك لا يجعل له خصوصية في الرثاء: لا كثرة، ولا ميزة معان وأفكار، ولا ظاهرة أسلوبية؛ وبما أن خيال الكوز ذو أصل باطني فيما نسب إلى ديك الجن، ثم ما قاله أبو العلاء وهو باطني، ثم ما قاله الخيام الفارسي أو نسب إليه إنما هو تراث فارسي، وهو إرث شيعي: فمن المرجح جداً أن ما صح منه إبداع فارسي، وما لم يصح منه فهو من وضع الشيعة والفرس، ولهذا نرى في المجلدات الكثيرة عن مراثي الحسين بن علي رضي الله عنهما، وفيما نسب إلى الحسين من الشعر العجب العجاب إلى حد أننا وجدنا شعراً عامياً منسوباً إليه من الفنون الملحونة كالأبوذيات؟!. وقد ينزع الوهم إلى الاعتقاد بأن لدى ابن رشيق نماذج من رثاء ديك الجن لم تصل إلينا، ولكن تصريحه رحمه الله أعفانا من هذا التوهم؛ لأنه ذكر النماذج التي بنى عليها خصوصية الرثاء عند ديك الجن.. قال: (وأبو تمام من المعدودين في إجادة الرثاء؛ ومثله عبدالسلام بن رغبان ديك الجن، وهو أشهر في هذا من حبيب، وله فيه طريق انفرد بها؛ وذلك أنه قتل جاريته وقد اتهم بها أخاه، ثم قال يرثيها: يا مهجةً جثم الحمام عليها وجنى لها ثمر الردى بيديها رويت من دمها الثرى ولطالما روى الهوى شفتي من شفتيها حكمت سيفي في مجال خناقها ومدامعي تجري على خديها فوحق نعليها وما وطئ الحصى شيء أعز علي من نعليها ما كان قتليها لأني لم أكن أخشى إذا سقط الغبار عليها لكن بخلت على الأنام بحسنها وأنفت من نظر الحسود إليها وقال فيها أيضاً على بعض الروايات: أشفقت أن يرد الزمان بغدره أو أبتلى بعد الوصال بهجره فقتلته وله علي كرامة ملء الحشا وله الفؤاد بأسره قمر أنا استخرجته من دجنه لبليَّتي وزففته من خِدره عهدي به ميتاً كأحسن نائم والحزن ينحر دمعتي في نحره الذي أعرف: (ينحر مقلتي)، وهو أصح استعارة. لو كان يدري الميت ماذا بعده بالحي منه بكى له في قبره غصص تكاد منها نفسه ويكاد يخرج قلبه من صدره والرواية الأخرى أن المتهم بالجارية غلام كان يهواها قتله أيضاً؛ فصنع فيه هذه الأبيات، فصنعت فيه أخت الغلام: يا ويح ديك الجن بل تباً له ماذا تضمن صدره من غدره قتل الذي يهوى وعمِّر بعده يا رب لا تمدد له في عمره قال أبو عبدالرحمن: إذن المثال يائية الديك بوصل الهاء، ورائيته بوصل الهاء.. وروايتهما وقصتهما ونسبة الأولى: كل ذلك محل اضطراب كثير تناولته في بحث مطول عن كوزيه، وبينت أن القصة أسطورة بيقين لا تناسب سياق القصيدة.. وبعد هذا كله فهي عادية أداءً ومعنى وفكراً وعاطفة، وإنما الإثارة في شناعة الواقعة.. الواقعة تاريخياً، أو أسطورياً، وهي وقائع متناقضة.. وأما الرائية بوصل الهاء فحري أن تكون لديك الجن، وأنها في غلام قتله كان يهواه؛ وإنما الخرافة في ربط القصيدة بأسطورة الجارية، والزعم بأنه قتله؛ لأنه كان يهواها!!.. مع العلم أن القصيدة تقول: أشفقت أن يرد الزمان بغدره أو أبتلى بعد الوصال بهجره فهذا هو السبب، ولم يذكر الجارية سبباً؛ ولهذا رتب على منطوق هذا البيت حادثة القتل بقوله: فقتلته.. إلخ.. وليس نحر المقلة بأبلغ كما قال ابن رشيق؛ لأن الحزن لا يجعل المقلة تنضب من الدمع، بل ينضب مع تمادي الحزن وكثرة البكاء.. على أن الرواية: (يسفح عبرتي).. وبعد هذا فعبارة (ينحر دمعتي) معنى جميل، لأنه لم ينكر الدمع، بل جعله يسيل على نحره بدلالة النحر.. ولا يليق حمل المعنى على تجمد الدمع واغتياله بمعنى أن نحر الدمع تجميده؛ لأن الجمود لا يليق بالنحر الذي هو إسالة، ولأن الحزن ولا سيما في أول الحدث يسيل الدمع ولا يجمده.. والرائية أجمل من اليائية بلا ريب، ولكنها لم تتخلص من التعبير المباشر (وإن كان بأسلوب فصيح) إلى الإيحاء، والبعد الفكري، والتجنيح الخيالي؛ حتى يكون ديك الجن ذا ميزة ومنهج في الرثاء.. ومن العجيب قول ابن رشيق رحمه الله عن ديك الجن والرثاء: (وله فيه طريق انفرد بها).. ثم علل هذا الطريق والانفراد بقوله: (وذلك أنه قتل جاريته.. إلخ). قال أبو عبدالرحمن: أما الميزة الفنية فقد مضى الكلام عن انتفائها، فلم يبق إلا الواقعة أو الأسطورة: بأنه قتلها غيرة، ثم رثاها.. فهذا ليس منهجاً فنياً، ولا ميزة فنية؛ وإنما هو غرابة واقعة لا شأن لها بموهبة ديك الجن.. وأما إطلاق أوليته في رثاء القاتل قتيله فليس ديك الجن أول من فعل ذلك، بل نسبت الأولية إلى شاعر أسبق منه بقرون، وهو قيس بن زهير العبسي في قوله: تعلم أن خير الناس طراً على جفر الهباءة ما يريم وشعر ديك الجن في جملته -حسب الديوان المجمع من المصادر، والضميمة من كتاب المستدرك على الدواوين- على منهج أبي نواس في الخلاعة والغلمانيات والخمرة والطرديات، وقد أعجب أبو نواس بأخيه ديك الجن في المجون.. قال الصفدي: (واجتمع بأبي نواس لما توجه إلى مصر، وقال سعيد بن زيد الحمصي: دخلت على ديك الجن لأكتب شعره، وقد صبغ لحيته بالزنجار وعليه ثياب خضر، وكان جيد الغناء بالطنبور.. وقيل: إنه كان أشقر أزرق العينين، ويصبغ حاجبيه بالزنجار وذقنه بالحناء؛ ولذلك قيل له: ديك الجن -.. ومن شعره: بها غير معذول فداو خمارها ومل بحبالات الغبوق ابتكارها ونل من عظيم الوزر كل عظيمة إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر ولا تسق إلا خمرها وعقارها فقام يكاد الكأس يحرق كفه من الشمس أو من وجنتيه استعارها ظللنا بأيدينا نتعتع روحها فتأخذ من أقداحنا الراح ثارها موردة من كف ظبي كأنما تناولها من خده فأدارها ولما اجتاز أبو نواس بحمص سمع به الديك فاختفى خوفاً منه؛ لأنه قاصر، فقصده أبو نواس في داره، فاستأذن عليه فأنكرته الجارية؛ ففهم المعنى فقال للجارية: قولي له: اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك: موردة من كف ظبي كأنما تناولها من خده فأدارها فلما سمع ذلك خرج إليه وأضافه). قال أبو عبدالرحمن: لماذا لا يطرب أبو نواس مع هذه الخمرية الغلمانية الصارخة؟!.. وليس غرضي الكلام عن شاعرية ديك الجن، وإنما الغرض فخامة النقد حول الميزة المزعومة لمنهجه في الرثاء مع أن المثال قصيدة القصة الأسطورة، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.