من أصعب الأمور في الحياة، ومن أقسى الصور الرديئة أن تتحول الأخطاء والصور السلبية إلى صور عادية يعتادها المارة.. ويعتادها المسؤولون.. ويصدقها من يمارسونها.. ويتغاضى عنها المجتمع بكافة أطيافه ولا يتوقف أمامها.. يتساوى معه الإعلام العام والخاص بتجاهله لظواهر كارثية بدأت بآشخاص وانتهت بآلاف الآشخاص يمارسون التسول وهو ليس مهنتهم علناً دون رادع أو سؤال من أحد أو مسؤول يتوقف يدرس الظاهرة ويعيد ترتيب أوراق هذه العمالة التي حضرت من أجل سبب وانتهت تعمل في شيء آخر..! أتحدث عن عمال النظافة هذه العمالة التي أحضرتها شركات النظافة بعقود تدفعها الدولة لها.. ولا يعنيني هنا تأخر مستحقات هذه الشركات كما تُثار مثل هذه القضايا بين آن وآخر وبالتالي عدم صرف رواتب هذه العمالة الآسيوية وهي حالات ليست مستديمة فالشركات مطالبة بتنفيذ عقود العمال وإلا توقف صرف مستحقاتها.. لذلك هذه العمالة المنتشرة في الشوارع وبالذات الرئيسية ويزداد تكدسها في إشارات المرور والشوارع الراقية، والمحلات مطالبة بتنفيذ شروط العقود التي حضرت من أجلها وهي القيام بمهام النظافة في الشوارع.. وليس القيام بالتسول علناً ودون رادع.. صورة مشينة بل صور غير حضارية لعدد هائل من عمال النظافة بل أجزم أنهم جميعاً بعد أن تحولت مهمهتم من النظافة إلى التسول دون أن تردعهم شركاتهم التي أحضرتهم.. ولا هيئة مكافحة التسول التي لم يرها أحد في رمضان ولم تظهر في الشوارع التي تكدست بالمتسولين وأطفالهم وعرباتهم..! في رمضان زادت ظاهرة تسول عمال النظافة وتكرست كعمل حقيقي لهذه العمالة وليس إضافيا.. فعند توقفك بأي إشارة في رمضان وما أطول لحظات هذا التوقف ستجد أكثر من عامل يتوقف أمام سيارتك ولوقت طويل، دون أن يملّ أو يغادر بل على العكس يواصل وقوفه متنقلا بين السيارات وبيده المكنسة والجاروف المتسختان والتي لا تعكس أي اهتمام بالنظافة أو أنه يقوم بعمله الذي حضر من أجله.. المشكلة تتعقد بعد أن تكرس بأن عمله هو التسول بمباركة من الشركة التي أحضرته لأنها لا تتابعه ولا تهتم بعمله وبمباركة من المواطن الذي يدفع له كصدقة وبمباركة من هيئة التسول التي نسيت عملها.. والواقع أن الهيئة لو قامت بالقبض على المتسولين من عمال النظافة لن يبقى عامل في الشارع.. نحن نسيء إلى هذه البلد ونسيء للإحساس بالمواطنة وقد نلغيه بحجة أن كل واحد مسؤول عن نفسه وبحجة أن هذه العمالة فقيرة وتستحق المساعدة.. لا بأس قد تكون رواتبها ضئيلة ولكن تتقاضاها مقابل عمل حضرت من أجله لكن هي لا تقوم بهذا العمل والشوارع الجانبية تتكدس فيها النفايات والنظافة ليست على مايرام والمواطن لا يتوقف أمام الشارع ولا يقوم بموقف إيجابي حيال هذه الظاهرة المشينة..! قبل رمضان كنت في إسطنبول أتسوق في سوبر ماركت مع والدتي وتوقفت لأخذ غرض ولكن فوجئت بعامل نظافة تجاوز الستين بكثير يدخل بالجزء الأعلى من جسمه إلى داخل ممرات العرض ليقوم بتنظيفها بأدوات هي في الأصل نظيفة، انتظرت حتى خرج بجسمه من تحت الأغراض بعد أن ترك الممر يلمع وتفوح منه رائحة جميلة.. تسعد المتسوق وتحفّزه على التسوق بهدوء.. تأملت ماقام به من عمل دقيق وأمين دون أن يراقبه أحد أو يطلب منه.. بدا شخصاً فقيراً لكنه لم يتوقف أو يُشعر المتسوق أنه محتاج.. هل هذه هي المواطنة التي تنعكس على حب البلد وأداء العمل بأمانة وإخلاص وحب.. تذكرت أنه حتى عمال السوبر ماركت الذين ينظفون ممراته أصبحوا يتوقفون للمتسوق متسولين.. لن أدخل ذلك في حب البلد أو عدم الإحساس به أو تفهم المواطنة لأنهم غير مواطنين.. ولكن توقفت أمام العامل التركي العجوز في مشهد تنظيفه لأسفل أرفف السوبر ماركت بضمير ومسحه بالرائحة الجميلة.. مقابل العامل الآسيوي الذي يأخذ الزبالة من طرف الشارع دون اهتمام ليكدسها في الطرف الآخر مشغولاً بالتسول وما سوف يحصل عليه في غياب البلدية وشركات النظافة ووعي المواطن وتبلد إحساسه بأنه يساعد في هذه المهزلة..! نحن نعاني من أزمة كل واحد مسؤول عن نفسه وبعبارة إيش عليّ بغيري التي أودت بكثير من القيم والمبادئ وكرست الخلل وتركت الإهمال يتحرك ويسوس الأشياء دون رادع.. بجهل المفهوم الأهم للمواطنة والذي ينبع من إحساسك بأن هذا الوطن بخير وأن حبه يتغلغل في القلب من خلال خوفك عليه ودفاعك عنه وتفهمك لما يليق به ومعرفتك المستديمة بأن هذا الوطن لابد أن يكون فوق الجميع.. أنت مواطن يعني الاعتداد بوطنك ولكن بمحاولة إدخاله إلى بوابة الضوء وليس الإذعان لكل ماهو سلبي..!!