في أحيانٍ كثيرة، نتمنَّى لو أننا استطعنا أن نتنحَّى جانباً، ونُطلِق لأطفالنا العنان ليكتشفوا الدُّنيا وحدهم، دون إشرافنا، ورُبَّما بإشراف أشخاص بالغين آخرين؛ لمُساعدتهم على أن يصبحوا مُحبين، ومُستقلين، ومُنتجين، وفاعلين في المجتمع وفي البيئة التي تُحيطهم. هذه الأهداف الـ 4، مِن المُفترض أن تكون النتيجة النهائية التي يُحاول الآباء الوصول إليها من خلال عملية ، لكن للأسف، بدافع الحُب والتضحية، يتمنّى الآباء لو استطاعوا أن يُقدِّموا كُل شيء إلى أطفالهم، وهذا الطبع ليس صحيحاً، ويرمي بهذه الأهداف الأربعة إلى عرض الحائط. فيما يلي، نتناول معاً أهم الأسباب التي تعوق الأطفال ليُصبحوا مُستقلي الشخصية: 1. محاولة ضمان السعادة الدائمة لأطفالك الفطرة هي اللي تتحكّم بشعور الأمومة والأبوّة، وهي التي تجعلنا نتعاطف مع أطفالنا، وهي أيضاً التي تدفعنا للبُكاء حينما نعرف أنّهم يمرّوا بخطر أو يشعروا بضيق، كُل هذا نابع مِن محاولتنا لأن نحميهم مِن أي تجربة سيّئة قد تُعكِّر صفو حياتهم. المُبالغة في الاستسلام لهذا الأمر، يجعل الطفل لا يُدرك شعوره الحقيقي تجاه الأشياء، لأنّه يُبرمج نفسه على الانفعال بنفس الطريقة التي ينفعل بها والداه، ودون أن يُدرك أنّه لديه كيان شعوري مُختلف ومُستقل عنهما، عليه أن يبدأ في إدراكه والتعامُل مع العالم مِن خلاله، وكُلّما حاول الأب والأم إبعاد أي شعور بالحزن أو بالضيق عن أبنائهم، وتصدير الحياة بلونها المُشرِق فقط، كلما جعل من استقلال الطفل بشعوره أمراً في غاية الصعوبة، ولا يعرف ما يجعله سعيداً، وما يُغضبه. 2. المديح الزائد مِن الأهل المديح مِن الأهل، والتضخيم مِن تقدير أطفالهم أمام الناس، رُبّما يكون له عواقِب سيّئة إذا ازداد الأمر عن حدّه. الإصرار على هذا الأمر يجعل الطفل يشعُر أنّه يمتلك ما لا يمتلكه أحد، وأنّه مهما ارتكب مِن أخطاء، فإن ذلك لن يؤثر على تقدير أهله ومدحهم الزائد له، وهذا ليس تحفيزاً للطفل على الاستقلال أبداً، لأنّه لاحقاً أن لهذا الأمر تأثيراً سلبياً على قدرة الطفل على قضاء المهام بفعاليّة، وتم ربطه بالسلوك العُدواني عند بعض الأطفال. تقدير الذات يجب أن ينتج عن تعليم الطفل مهارات الاستقلال، والصدق، والإحسان، والطيبة، ويأتي مِن قدرة الطفل على القيام بالأمور الصحيحة وحده دون تدخُّل من الأهل. على الأهل أن يُشجّعوا أطفالهم على تقدير ذاتهم، وأن يمدحوا ما يقومون به، فقط إن كان ذلك يؤدي إلى تحسين قُدراتهم، وإذا استطاعوا القيام بمُهمة فشلوا فيها سابقاً. 3. التدخُّل في تحديد علاقاتهم لا يُمكن للأهل أن يُنكروا ذلك! لطالما مرَّ الآباء والأمهات بأيام شعروا فيها أن صديق ابنهم تصرفاته غير مُلائمة، أو أخلافه غير جيّدة، ولكن مع ذلك يُرافقه طفلهم ويُحبّه حُباً جماً، وهذا الأمر خارج عن السيطرة، فكثير مِن الأطفال ينجذبون إلى بعضهم بعضاً دون أدنى تدخُّل منهم. ولكن الفرق هُنا يكمُن في تصرّف الأهل مع ابنهم: هل منعوه من التواصل مع صديقه؟ أم حاوروه وحاولوا أن يوصلوا وجهة نظرهم عن طريق المُناقشة والتفاهم؟ الجميع يتمنَّى لأطفاله أصدقاء مستوياتهم جيّدة في الدراسة، ومِن عائلات مُحترمة، ولكن التدخل في بدء أو إنهاء صداقة الطفل مع أحد أصدقائه سيجعله يشعر بأنّه ليس لديه سيطرة على أمور حياته الخاص، وسيشعّ بأنّه ليس مؤهلاً لاتخاذ قرار، وسيستمر هذا الأمر معه حتّى مرحلة سنيّة يصعُب فيها التغلُّب عليه. 4. القيام بدور المُدرّبِ والمُشرِف الكثير مِن الأهل تجدهم يشتركون في الموهبة نفسها مع أطفالهم، إمّا بالطبيعة، وإما بسبب غرس حبها فيهم، في أي الحالتين، عندما يحدث أن تتشارك مع طفلك في نفس الموهبة، وتُقررا ممارستها سوياً، فلا تقم بدور المُدرِّب طوال الوقت، أعطه فرصة للتحكُّم في الأمور، ولا تدفعه نحو ما تُريد دون أن تعطيه فرصة للتفكير في الأمر، واتخاذ قرار يخص شخصه دون تدخُّل منك. القليل مِن الأهل من يستطيع أن يرشد طفله إلى الطريق الصحيح، دون أن تفسد العلاقة بينهما، فيشعر الطفل أنّه بلا رأي، أو أنّه يُدفع دفعاً نحو ما يُريد الأهل تحقيقه، ولعلّنا رأينا ذلك كثيراً في حالات مختلفة مِن الأبناء الذي يُقرِّرون ألا يستكملوا ما بدأوه لسنوات عديدة في الرياضة مثلاً، بسبب أنهم يشعرون أن هذا هو كُل ما يتمنّى الأهل تحقيقه، ولا يأبهون بما يشعر أو بما يُحب. 5. العمل على حمايتهم طول الوقت العالم أصبح مكاناً مُرعِباً بلا شك، وفكرة أن تترك أطفالك وحدهم رُبما تُعد فكرة مُستحيلة لك، لكن الإنجاب والتربية مسؤولية، ولا يُمكنك ان تُربي طفلاً مُستقلًّا إذا كُنت ستُرافقه في كل خطوة مِن خطوات حياته. تقول ، أنّه مُنذ العام 1969 حتّى العام 2009، انخفض عدد الأطفال الذين يذهبون إلى مدارسهم سيراً على الأقدام مِن 89% إلى 35% فقط. وانخفضت مدة اللعب الحُر الأسبوعية بحوالي 10 ساعات، ولم يعد مسموحاً للأطفال باللعب في باحة منزلهم الخلفية، أو أمام المنزل، وعوضاً عن ذلك، تُستبدل هذه المُدة بقضاء ساعات طويلة أمام التلفاز والآلات الالكترونية، التي يكون لها أثر سيء جداً على مستوى إدراكهم. كُل هذا لا شك نابِع مِن رغبة الأهل في الحفاظ على أطفالهم وحمايتهم، ولكن يخرجون بنتيجة عكسيّة تماماً، نتيجة لتركيزهم على الحماية، والحماية فقط، دون أي اعتبار لرغبة الأطفال في الفضول والاكتشاف، وأهمية أن يفعلوا ذلك لبعض الوقت بعيداً عن مُراقبة أهلهم. 6. تطويعهم لعالمٍ غير عالمك نعيش في عالم تحتل التكنولوجيا جوانبه، وبات مِن غير المعقول أن تجد منزلاً لا يوجد فيه هاتفٌ ذكي، أو تلفاز ذكي، أو جهاز كمبيوتر، ويمضي البالغون ساعات طويلة أمام هذا الآلات، مُتجاهلين واجباتهم الاجتماعية، ثم بعد ذلك يُريدون مِن أطفالهم أن يتوقّفوا عن اللعب بجهاز الـ iPad، أو يتوقفوا عن رغبتهم في مُشاهدة فيلم كارتون، كيف يُمكِن أن نطلب مِن طفل أن يتوقّف عن الكذب وهو يرى أمّه وأباه يستمران في الكذب ليل نهار؟ المثال ينطبق على استخدام التكنولوجيا أيضاً. إذا أردنا للأطفال أن يتمكّنوا من اكتشاف العالم بأيديهم، وأن يبدأوا في الاعتماد على أنفسهم وأن يُصبحوا مُستقلين، غيّروا عالمكم، ثم سترون أنهم بدأوا في تقليد ما تفعلونه. 7. فعل كُل شيء بأنفسكم إذا أردت أن يكون ابنك مُستقِلًّا، فتوقّف عن جعله يعتمد عليك في كُل صغيرة وكبيرة! لا يُمكن أن يكون الطفل في نهاية المرحلة الابتدائية وما زال يعتمد عليك في تحضير جدول الدراسة له؛ لأنّه غير مُنظّم. وإذا استمر الأهل في هذا الأمر، فلن تكون النتيجة هي أن الطفل سيتعلّم مع الوقت أن يعتمد على نفسه، وإنّما ستزداد الأمور سوءاً. بعض الأطفال لا يقومون بترتيب حجراتهم؛ لأن الأم دائماً ما تفعل ذلك، وإذا بادر أحدهم إلى فعل ذلك، تنهره الأم بحجّة أنّه لن يستطيع، ثم تقضي حياتها كُلّها في النهاية تشتكي مِن عدم مساعدة ابنها في تنظيف حجرته والاعتناء بها. والاستقلال لن يأتي بين ليلة وضُحاها، وإنما الأمر أشبه بمحاولة الجري للقفز عالياً، لن ينجح الأمر مِن المرة الأولى أو الثانية، وإنما سيحتاج لمرّاتٍ مُتكرِرة. في النهاية، سيتعيّن على الأهل أن يُشاهدوا أطفالهم الصغار يكبرون، ويبدأون في أن تكون لهم حياة مُختلفة تماماً وبعيدة عن أعينهم، ولو لم يستطع الأهل أن يتعلّموا الاكتفاء بالمُشاهدة والمُتابعة عن بُعد وهم ما زالوا أطفالاً، فستكون النتيجة سيئة لكلا الطرفين.