يبدو أننا في زمن اختلطت فيه المفاهيم إلى درجة لم يَعُد الناس يفرقون بين القيم المعيارية الثابتة وبين السلوكيات التي ترتبط بالمصالح وقد ترتكس أو ترتفع، وعلينا حكمها بتلك المعايير القيمية الثابتة. أقول هذا بعد أن سمعت قبل مدة وتعجبت من صلاة المسلمين يوم الجمعة في كنيسة واشنطن! وتساءلت: هل يقبلون أن يصلي المسيحيون الأحد في مساجدهم؟ وإن قبلوا ذلك، فهل هذا أمر مقبول دينياً؟! ورحت أتساءل عن الأساس الذي قام عليه هذا التصرف؟! وصرخت: التعايش نعم، لكن الخلط بين الأديان يؤدي إلى الفوضى. ولأننا في زمن اختلاط المفاهيم، ينبغي أن نصرح بثقة معرفية ودينية وأخلاقية أن التسامح والتعايش لا يقتضيان الخلط بين المعتقدات والشعائر، فإن ذلك يؤدي إلى فساد الجميع، بل إن الموقف العلمي والأخلاقي والديني يقتضي منك إما أن توصل لهم ما عندك، أو تقول لهم لكم دينكم ولي دين؛ دون إكراه أو استغلال. وقد يظن البعض أن الاختلاف في الدين موجب للتنازع والصراع، ولذلك سعوا إلى نوع من وحدة الأديان، أو المساواة بينها من حيث الحقيقة، وليس من حيث التعامل بالحسنى بين المنتمين إليها، وهذا لعمري خلط من الناحية الدينية والمنهجية والأخلاقية. فالاختلاف في الدين ليس موجباً للتنازع والتباغض والاقتتال، بل قد نتعايش ونحن مختلفون دينياً، ولكلّ دينه، ونتعاون في المشترك من القيم الإنسانية، فالدين يقوم على الحقيقة؛ ولهذا فتواصلنا مع أصحاب الأديان الأخرى إما للتحاور على أساس «كلمة سواء» للوصول إلى الحقيقة، أو للتعايش رغم الاختلاف «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ». ولهذا فإن الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه عند فتح بيت المقدس رفض أن يصلي في «كنيسة القيامة» حتى لا يتبعه أو يقلده المسلمون بعد دلك، ويتحججون بأن عمر صلى في كنيسة، فيكون مظنة الخلط، أو مظنة ظلم من المسلمين لأهل الكتاب، وأصحاب الأديان الأخرى. بل قد يعترض آخر ويقول: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» فالمساجد ليست ملكاً للمسلمين, والكنائس ليست احتكاراً للمسيحيين، «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ»! وما دام كلاهما يوجهان نظرهما إلى وجهة واحدة ينتهي الاجتماع فيها بكلمة آمين, لا أرى غضاضة في اختيار المكان المناسب لذلك. فكلنا ضيوف في بيوت الرحمان؟! وردّا على هذا الاعتراض، نتساءل: ماذا يَدْعُون في الكنيسة؟ هل يدعون إلهاً واحداً؟ ولما يدخلوا المسجد، ماذا يعبدون؟ وهل الأمور تسير بالنوايا الطيبة أم بالتزام الصواب، والنوايا يعلمها الله؟ أم ماذا؟ ثم إن عبادة الرحمن هل تتم باتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم، أم باتباع الهوى أو أي منهج آخر؟ وإلا ما فائدة مجيء الإسلام مصححاً لتحريفات الأديان السابقة؟! أي رحمن يعبده النصارى وهم يرون المسيح ابن الله، ويؤمنون بالحلول؟ هل يستوي من يسجد لله موحِّداً ومن يسجد لله ظانّا أنه معه أحد يشاركه الألوهية والربوبية؟ انظروا آيات سورة المائدة من 72 إلى 75. فهل ينتقد القرآن القول بإلهية المسيح، ثم يبيح الخلط في العبادة؟ والقرآن ذاته يدعو إلى التوجه لله وحده بالعبادة في المساجد (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)، فهل المصلي المتوجه إلى عيسى ابن مريم قصداً أو تبعاً موحد لله؟! وقد يعترض آخر بكلام غاية في الجمال، لكنه خالٍ من التماسك المنطقي ومن الانسجام مع كليات القرآن في التوحيد والتزكية والعمران، ويقول القائل: أستسمحك في قراءة هذه الأبيات الشعرية لأحد المتصوفة: لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ** فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف ** وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنَّى توجهت ** ركائبه فالحب ديني وإيماني وإجابةً على هذا الأخ الفاضل، أقول: «وأين نضع قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، و(لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)؟ لذلك، فإن الحب عاطفة قد ترفع الإنسان إلى المعالي إذا كان ذلك الحب وفق ما شرع الله وارتضى، وقد يهوي بالإنسان فيخلط وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، كما أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام الذي أوردتم أبياته ليس حجة، بل هو مشكلة كبيرة تجعل الإنسان يخلط بين منهج النبوة وبين أهواء الآخرين، هذا من جهة. وباعتباري مسلماً فإني ملزم بإيماني أن أحسن التعايش مع الجميع، وأن أقسط إلى أصحاب الأديان الأخرى، فَهُم «إما أخٌ في الدين أو صِنُو في الإنسانية»، كما يؤثر عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهناك مجال واسع للتعاون مع أصحاب الأديان الأخرى، ولكن ليس من بينها أن نصلي في معابدهم ويصلون في مساجدنا، فإن ذلك خلط بين الأديان يفسدها جميعا.;