الجنون فنون. والجنون ليس معناه فقد العقل، بل تجاوز العادي والمألوف إلى خلق عالم فني لم يكن ليحدث لولا ذلك الجنوح نحو الإتيان بما لم يكن متصورا.. والعشاق هم من يصنعون تلك العوالم المدهشة كتأكيد على عشقهم وتفردهم بذلك العشق، وجمهور نادي النصر قفز من خانة التشجيع المألوف إلى الابتكار وتسجيل تصدرهم للدوري السعودي بوسائل مختلفة ومبتكرة تحاول تثبيت العشق وتقديم المعشوق، حتى وإن كان المعشوق ضنينا في عطائه، فمع انطلاق الجملة لم يكن نادي النصر كريما بمنح عشاقه النتائج التي تبقيهم في حالة رضا، فالجملة جاءت حين كان النادي في حالة تعثر تام وبعيدا عن المنافسات لسنوات طويلة، حتى إذا ظهر هذا الموسم بتقدم من البدء ظهرت الجملة، وهي جملة فردية تحمل دلالة لنفسية واحدة، فإذا بها تتحول إلى شعار للمجامي. فجملة (متصدر لا تكلمني) انطلقت من فم أحد المشجعين النصراويين، ولم يكن يتوقع أن جملته سوف تجوب العالم، وتصبح شعارا حرص جمهور نادي النصر على تواجدها أينما كانوا، وقد سهلت وسائل التواصل الحديث للمشجعين الإتيان بحالات مبتكرة لترديد هذه الجملة على ألسنة المشاهير كأفراد وعلى ألسنة المجاميع كشعوب حتى أن أحد المشجعين أوصل الجملة إلى الصنيين مطالبا إياهم بترديدها.. وكان يمكن لهذه الجملة أن تموت منذ بداية الدوري لو أن نادي النصر خسر نتائج مباريات جولاته الأولى، فالجملة حين قيلت حملت صفة أخلاقية مذمومة وهي الترفع عمن هو دونك وعدم تنازلك للحديث مع من هو دونك، ومع سلبيتها الأخلاقية وما تشير إليه لم يقف الأفراد لتنقية الجملة من سلبيتها، وهذا يشير أيضا إلى أن المجاميع حين تستهلك مفردة تستهلكها بعيدا عن دلالاتها الأخلاقية، بل تتحول من دلالة إلى دلالة أخرى تماما. ومواصلة نادي النصر لانتصاراته تحولت الجملة إلى شعار أيقظ حماس جمهور هذا النادي في تعميمها كجملة تؤكد على مواصلة الفوز، وقد ساهم في انتشارها بقاء نادي النصر متصدرا مع ابتكارات الجمهور واستحضار الجملة بطرق مختلفة، فها هو شاب يقفز بمظلة عليها شعار النصر ويتم تصويرها وبثها عبر الواتسب، وها هي ذبيحة تسلخ فيستخرج من جوفها شعار نادي النصر.. وعشرات اللقطات المختلفة بدأت بتشكل الجملة وتثبيتها كشعار يخرج جماهير النادي من الهزائم التي أعدت فريقهم عن المنافسات، وأن تنطلق هذه الجملة من بداية الدوري إلى الآن، فهي تمثل أداة ضغط عنيفة على النادي وجماهيره، فلو أن النادي تراجع أو تفوق عليه غريمه التقليدي بالتقدم، فسوف تكون الجملة محط سخرية عنيفة بدل أن كانت جملة اعتزاز ورفعة. والآن، ولم يعد متبقيا من الدوري إلا مباريات قليلة، هل يواصل نادي النصر تقدمه ويجبر بخاطر مشجعيه العودة لمنصات التتويج، أم يتعثر فتعود جملة متصدر لا تكلمني إلى وصمة عار سيندم من أطلقها ومن تبناها.. وأظن أن نادي النصر أقرب لتثبيت شعار جمهوره، رغبتنا فقط أن يمحو الجمهور عن جملتهم جانبها السلبي ويتكلموا مع الجميع، فالتصدر لا يعني المقاطعة بل التواصل.