لم يكن ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني المستقيل، يعرف أنه سيقضّ مضجع روائي أوروبي عالمي في مرقده الأبدي، عندما يدعو إلى استفتاء بريطاني على بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي. ربما كان تفكير كاميرون منصبّاً على هلاوس ليلة الزعامة وتأكيد رؤاه السياسية، من دون أن يعرف موقع قدمه الواقعية على الخارطة. وبعيداً عن هلاوس كاميرون، كان هناك حلم قديم ينمو على مهل منذ 165 عاماً، غرس شجرته ورواها الروائي فيكتور هوغو صاحب "البؤساء" و"أحدب نوتردام"، الذي قدم رؤية فرنسية لحلمه بالوحدة الأوروبية في عام 1851. وإذا كان كاميرون دفع فاتورة مغامرته السياسية، فإن بؤساء بريطانيا سيتذكرون فعلته بعد أن تهاوى الإسترليني أمام الدولار واليورو. وخوفاً من أن تصبح بريطانيا "أحدب" القارة العجوز ربما يعيد البريطانيون النظر في قرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ويعيدون قراءة حلم فيكتور هوغو من جديد. فكرة أوروبا الموحّدة ليست جديدة كان اسم أوروبا يطلق قديماً على الجزء الجنوبي الشرقي من القارة، مثلما كان اسم آسيا يطلق على غرب الأناضول. وإفريقيا على شمال القارة الإفريقية فقط، والغريب أن اسم أوروبا هو اسم لأميرة سورية هربت من أرض الفينيق إلى أرض أوروبا الحالية فمنحت القارة العجوز اسمها الحالي. لم تكن أوروبا موحّدة بأي شكل من الأشكال العرقية أو السياسية، وكان أول مقترح "سلمي" لتوحيد أوروبا ضد عدو مشترك قد ظهر بعد سقوط القسطنطينية في يد الأتراك عام 1453، حيث اقترح الملك الحوثي جورج بوديبرادي، في 1464 اتحاداً مكوناً من الأمم الأوروبية المسيحية ضد تركيا. ثم كانت محاولات لوحدة من نوع ما - منقوصة – مثل الإمبراطورية الفرانكية لشارلمان والإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي وحدت أجزاء كبيرة من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا تحت إدارة موحدة - وإن كانت غير محكمة - لمئات السنين دونما النص على مصطلح للوحدة الأوروبية. وربما يمكن رصد إرهاصات فكرة الوحدة في أعمال المفكر الشهير أوجست كانط في اقتراحه عام 1795 لعقد "مجلس السلام الأبدي". شجرة هوغو وبينما بدأ القرن التاسع عشر بقرار نابليون بونابرت فرض حظر على البضائع البريطانية لصالح اقتصاد فرنسا في عام 1806، فإن المسرح بدا مهيئاً للروائي الفرنسي الشهير فيكتور هوغو ليطلق الفكرة بمصطلحها الأول في عام 1849، حينما تحدث في خطاب شهير له أمام مجلس السلام العالمي في باريس عن الولايات الأوروبية المتحدة. ويمكن فهم رؤية هوغو جيداً فقط إذا وضعناها على خلفية من الظروف الحاكمة في ذلك الحين، من تقلبات تاريخية شهدتها أوروبا في القرن التاسع عشر، التي عاشها هوغو وتأثر بها بشكل كبير، حيث دارت عدة حروب بين فرنسا وألمانيا، ونُفِي هوغو أثناءها إلى جزر شانيل، بسبب معارضته لنابليون الثالث، وما تلا ذلك من مأساة ضم ألمانيا لإقليم الألزاك واللورين بعد حرب 1870– 1871، وأخيراً تدخله في الميلاد الصعب للجمهورية الثالثة في فرنسا. من هنا يمكن فهم تطلع هوغو وتوقه إلى السلام والديمقراطية في القارة الأوروبية. وهو ما عبر عنه في خطابه بمؤتمر مجلس السلام العالمي. وقد قوبل اقتراح هوغو في المجلس بالسخرية، لكنه عاد للفكرة مرة أخرى في عام 1851. وغرس هوغو شجرة في أرض بيته بجزيرة جيرنساي، وقال إنه عندما تنمو هذه الشجرة وتنضج ستولد أوروبا الموحدة وتصير واقعاً. الغريب أن هذه الشجرة لا تزال تنمو وتترعرع في المكان ذاته الذي أصبح حديقة ميزون دي هوتفيل بميناء سان بيتر في جيرنساي، وهو مقر إقامة هوغو في منفاه خارج فرنسا. ورغم أنه لم يكن مَنْ صك المصطلح، فإن هوغو واحد من قلائل من الكُتاب والمفكّرين الأوروبيين في القرن التاسع عشر الذين عبروا خلال فترة زمنية اتسمت بالقومية الشديدة، عن نظرية متجانسة لوحدة اقتصادية وسياسية أوروبية، حيث تحدث عن تفاصيل مثل الوحدة النقدية (اليورو)، واختفاء الحدود السياسية القومية (الشنغن). وربما لفترة طويلة ظلت فكرة الولايات المتحدة الأوروبية غير واقعية مثلما بدت في عصره، لكن جاء تشكيل الاتحاد الأوروبي في الألفية الثالثة ليتحول حلم هوغو إلى حقيقة. لكن يبدو أن الفرق بين اليوتوبيا والواقعية السياسية أبى إلا أن يتسع، فها هي بريطانيا تحطم حلم هوغو أو تكاد تقطع شجرة حلمه. خطاب هوغو جاءت فكرة مجلس السلام العالمي لتجمع الأميركيين والأوروبيين، بداية من الاقتصادي البريطاني ريتشارد كوبدن (1804–1865)، وجيوسيبي ميتزيني (1808–1872)، الثائر القومي الإيطالي، وأحد حلفاء غاريبالدي في حربه من أجل الوحدة الإيطالية، هذا الثنائي الغريب كان وراء دعوة هوغو لرئاسة المؤتمر الأول لمجلس السلام العالمي. كوبدين وكما يليق بأنجلو ساكسوني عتيد، كان يعتقد أن الليبرالية الاقتصادية والتجارة الحرة هي العوامل التي تحدد حرية أو اتحاد الشعوب. وكان هو مَنْ أقنع الحكومة البريطانية في 1846، بأن ترفض فكرة الحماية. وكان يعارض الاستعمارية ويروّج لأفكار الجمهورية العالمية من خلال التجارة والتخلص من الحدود الجغرافية. وهكذا يعطي كوبدين البريطاني الليبرالي وميتزيني القومي الإيطالي صورة واضحة عن قطبي التفكير الأوروبي اللذين تداخلا عند هوغو - الذي يرى البعض أن حلمه الأوروبي أقرب لرؤية شارل ديغول - وهما قطبان قد يبدوان لأول وهلة متناقضين. فهوغو الذي أصبح أقرب فأقرب لليسار بدءاً من عام 1850، كان يؤمن مع هذا بفوائد التجارة الحرة وما تؤدي إليه من تحرر وتحضّر، من دون أن يتخلى تماماً عن فكرة الحكومة المركزية، التي كانت دائماً جزءاً من التقاليد الفرنسية تاريخياً، منذ عهد لويس الرابع عشر حتى الجمهورية الحديثة، مروراً بالثورة الفرنسية في 1789. فهل ثمة تناقض في خطاب هوغو حول وحدة أوروبا؟ أحد الباحثين يحل هذه الإشكالية بقوله إن عالم هوغو ليس عالماً ذهنياً فحسب. فهو صاحب رؤية ونبوءة، كما أنه شاعر؛ لذا فقد كان يفكّر بالصورة، ويمنح الأفكار المجردة وحتى الهلاوس جسداً من لحم ودم. كانت نبوءة هوغو من أوضح ما يكون عندما تحدث في خطاب آخر في عام 1876 عن صربيا، قائلاً: "إن ما يحدث في صربيا يظهر الحاجة إلى الولايات الأوروبية المتحدة. الحاجة إلى شعوب موحدة لتأخذ محل حكومات الفُرقة. دعونا نضع نهاية للإمبراطوريات الإجرامية. دعونا نُسكِت أصوات التعصب والطغيان". في ذلك الوقت كان الصرب تحت قمع هائل من جانب الإمبراطورية العثمانية، التي كانوا يحاولون التحرر من قبضتها، مثلهم مثل البلغار. ولم يكن هناك نقاش حول دخول تركيا لتصبح جزءاً من الاتحاد الأوروبي، فلم تكن تركيا بصورتها الحالية قد وجدت بعد، وإنما كانت الإمبراطورية العثمانية، التي مثلت الطغيان والقمع في عيون المفكرين الأوروبيين في القرن الثامن عشر. لكن أحلام هوغو كانت تتجاوز هذا التحالف بين الدول – الأمم، الذين يديرون خلافاتهم من خلال الحوار. فالشاعر صاحب الرؤية كان يريد اتحاد دول عبارة عن مزيج من الأمم التاريخية في أمة واحدة، يتحدد مصيرها على نموذج فرنسا، التي يستخدمها كصورة مجازية لشكل الوحدة التي يعنيها عند الحديث عن مستقبل أوروبا. نهاية التاريخ في نصوص هوغو تمثلت نهاية التاريخ في ما أطلق عليه الولايات الأوروبية المتحدة. فهو كليبرالي جمهوري أصبح مهتماً بشكل متزايد بدور الشعب – كمعارض للرجال العظماء الاستثنائيين، مثل نابليون، الذي أعجب به كثيراً – في الوصول لتلك النهاية التاريخية. وأصبحت رؤية أوروبا الموحدة عنده هي التصور القدري الأساسي في نسخة علمانية من فكرة الإيمان بالآخرة في المسيحية. نص خطاب هوغو في مجلس السلام الدولي بباريس عام 1851 أيها السادة لو أن شخصاً قبل 4 قرون، في وقت كانت الحرب فيه تشتعل من قرية لقرية، من مدينة لمدينة، ومن مقاطعة لمقاطعة – لو قال شخص وقتها للورين، لبيكاردي، لنورماندي، لبريتاني، لبروفينس، لدوفين، لبيرجاندي: سيأتي يوم لا تشنون فيه حرباً، ولا تقفون فيه بالسلاح في مواجهة بعضكم بعضاً، بالطبع ستكون هناك خلافات تسوونها، ومشاكل تحلونها، ومصالح تتناقشون بشأنها.. لكن هل تعلمون ماذا سيكون هناك بدلاً من رجال يحملون الأسلحة ويركبون الخيول؟ بدلاً من السيوف والرماح والأسلحة؟ سيكون هناك صندوق خشبي صغير اسمه صندوق الاقتراع. هل تعرفون ما الذي سيجلبه هذا الصندوق؟ تجمُّع تشعرون فيه جميعاً أنكم أحياء، تجمُّع يشبه أرواحكم، مجلس أعلى شعبي يقرر ويحكم، ويفصل في كل شيء بالقانون، تجمُّع سيسقط السيوف من الأيدي ويعلي العدل في القلوب. وهذا الحدث سيحدد لكم أنه هنا تنتهي حقوقكم وهنا تبدأ واجباتكم. ارموا اسلحتكم! عيشوا في سلام! في ذلك اليوم ستصلون لأفكار مشتركة، ومصالح مشتركة، ومصير مشترك. سيمسك كل بيد الآخر ستتعانقون لتعترفوا أنكم أبناء دم واحد وسلالة واحدة. في ذلك اليوم لن تصبحوا قبائل متعادية، وإنما أمة واحدة. لن تصبحوا بيرجاندي ونورماندي وبريتاني وبروفينس، ستكونون فرنسا. لن تعود هناك حرب، وإنما حضارة. إنكم تقولون اليوم – وأقول معكم – كلنا هنا نقول لفرنسا، ولإنكلترا، ولبروسيا، وللنمسا، ولإسبانيا، وإيطاليا، وروسيا، نقول لهم: سيأتي يوم، تسقط فيه الأسلحة من أيديكم، يوم ستبدو فيه الحرب سخف، وستكون مستحيلة بين فرنسا وبريطانيا، وبين سانت بطرسبرغ وبرلين، وبين فيينا وتورينو، كما تبدو مستحيلة اليوم بين روين وأميين، أو بين بوسطن وفيلادلفيا. سيأتي يوم لا تكون هناك ساحات قتال، وإنما أسواق مفتوحة للتجارة وعقول تتفتح للأفكار. سيأتي يوم تستبدل فيه القنابل والرصاص بالانتخابات، بالاقتراع، بالتحكيم المحترم لهيئة مستشارين عظمى تكون بالنسبة لأوروبا مثلما هو البرلمان بالنسبة لإنكلترا، والمجلس التشريعي لفرنسا. سيأتي يوم يتحول فيه المدفع إلى قطعة داخل متحف، كما هي أدوات التعذيب التاريخية اليوم. وسنذهل كيف كانت هذه الأشياء موجودة ذات يوم. سيأتي يوم نرى فيه هذان التجمعان الهائلان: الولايات المتحدة الأميركية والولايات المتحدة الأوروبية، يمدان أيديهما عبر البحار، يتبادلان البضائع، والفنون، والأعمال العبقرية، وينظفان الكرة الأرضية، يحولان الصحراوات إلى حدائق مثمرة، يحسنان المخلوقات تحت بصر الخالق، ويتشاركان في قطف الثمار. من هنا فإن هدف السياسة العظيمة، السياسة الحقة هو الاعتراف بكل الجنسيات، وإعادة إحياء الوحدة التاريخية بين الأمم وجمعها كلها في حضارة واحدة هي حضارة السلام، جماعة حضارية واحدة تضرب مثلاً للأمم التي لا تزال بربرية متوحشة، ليكون للعدل الكلمة العليا والأخيرة التي كانت في الماضي للقوة.