منذ فجر التاريخ، وقبل اكتشاف العقاقير الصيدلانية المتعارف عليها حالياً، أدرك الإنسان أن هناك أغذية كثيرة تنطوي على مناجم استشفائية مفيدة جداً سواء للوقاية من الأمراض أو لمعالجتها. وهذه الزاوية تسلط الضوء على بعض «الكنوز» الكامنة في تلك «المناجم». يعاني المصابون بمتلازمة داون من ضعف في القدرات المعرفية والذهنية يتراوح عادة بين الخفيف والمتوسط، لكن نتائج دراسة بحثية جديدة تبشر أولئك المرضى وذويهم بأنه من الممكن تخفيف حدة ذلك الضعف من خلال مُركّب كيماوي طبيعي اكتشفه الباحثون في الشاي الأخضر. فلقد نشرت مجلة «لانسيت نيورولوجي»، المتخصصة في طب المخ والأعصاب، تقريراً عن دراسة أجراها باحثون اسبانيون، وهي الدراسة التي خلصت إلى أن سر تحسين القدرات الذهنية والمعرفية لدى مرضى متلازمة داون يكمن تحديدا في مادة توجد في الشاي الأخضر، وهي المادة التي تعرف باسم «إبيغالوكاتيتشن غاليت» (EGCG اختصارا) وتنتمي الى فئة مُركّبات البوليفينول المضادات للأكسدة، والتي كانت دراسات سابقة قد كشفت عن أنها تقي ضد سلسلة من الأمراض بما في ذلك السرطان. التقرير أوضح أن الأبحاث، التي أجريت في اطار الدراسة الجديدة، استمرت على مدار عام كامل وأظهرت تطوّراً ملموساً في مستويات الإدراك والتعرّف والذاكرة لدى أطفال مصابين بمتلازمة داون بعد تغذيتهم بجرعات من مُركّب EGCG، وهو التحسن الذي استمر لمدة 6 أشهر بعد توقف التجارب. وكشف الفحوص الدماغية، التي أجريت على عينة البحث قبل وبعد تلقي العلاج، عن أن ذلك المُركّب يسهم في تحسين وتعزيز الطريقة التي تتواصل بها الخلايا العصبية في ما بينها داخل الدماغ. وفي سياق التجارب المختبرية، قام الباحثون بتقسيم 84 مصاباً بمتلازمة داون الى مجموعتين، وأُعطوا أفراد المجموعة الأولى شاياً أخضراً منزوع الكافيين ويشتمل على مُركّب EGCG بنسبة 45%. وجرى اخضاع أفراد هذه المجموعة الى تدريبات معرفية وادراكية عبر الانترنت استمرت قبل وبعد فترة العلاج, وفي موازاة ذلك، خضع أفراد المجموعة الثانية لنفس التدريبات، لكن من دون تناول الشاي الأخضر ذاته المشار اليه آنفاً. وجرى تكرار فحوص واختبارات إدراكية ومعرفية بعد مرور 3 أشهر ثم بعد مرور 6 أشهر ثم بعد مرور عام كامل لأغراض رصد ومقارنة مدى التحسن لدى أفراد المجموعتين. ورغم أن الفرق بين أفراد المجموعتين لم يكن كبيراً في البداية، فإن تطوراً ملموساً بدأ لاحقا في الظهور على أفراد المجموعة الثانية الذين بدأوا يظهرون تحسناً تدريجياً في القدرة على التذكّر والأداء اللفظي والتكيّف السلوكي، وازداد هذا التحسّن مع مرور الوقت. وتعليقاً على هذه النتائج المهمة قالت الباحثة مارا ديرسين، التي قادت الدراسة في مركز الأبحاث الجينية في برشلونة: «هذه هي أول مرة نكتشف فيها دوراً مؤثراً لمُركّب في التطور الإدراكي لدى المصابين بمتلازمة داون. وصحيح أنه لا ينبغي لنا أن نعتبر هذه النتائج بمثابة علاج، لكنها في الوقت ذاته تعتبر أداةً مهمة لتحسين نوعية حياة مرضى متلازمة داون وأفراد أسرهم على حد السواء». وفي أول ردود أفعال أكاديمية إزاء نتائج الدراسة، وصفتها الدكتورة ماري كلود بوتر - المتخصصة في متلازمة داون لدى معهد سبان في باريس - بانها «وثبة نوعية الى الأمام». وفي حين أشاد خبراء ومراقبون مختصون آخرون بنتائج الدراسة، واصفين إياهما بـ «بالغة الأهمية»، فإنهم دعوا جميعاً إلى اجراء مزيد من التجارب من أجل التأكد تماما من صحتها.