ما أثارني لكتابة هذا المقال ولفت نظر الكثير، أن أحد الدعاة في لقاء له الأسبوع الماضي قدم نفسه "ككاتب صحفي"، وهذا يعبر عن شكل من أشكال التسابق للحيازة على المنابر الدعوية، من خلال الإعلام والصحافة، بعد أن فقد الخطاب الدعوي الهزيل هيبته في اهتمام أكثرية الناس، فالطريقة هنا أن يُقدم الخطاب بحُله جديدة تلاحق نمو الوعي الاجتماعي، وتحاول التماشي معه، وإن صح التعبير "تحاكي الموضة". لا أنكر أن الحق مشروع لكل شخص في أن يقدم نفسه كما يشاء، ولكن التساؤل كيف يمكن ممارسة العقلية الأحادية والإقصائية لأفكارها التي تتصادم مع طبيعة الحياة التعددية ومفاهيم الحرية؛ وذلك من خلال مسمى ومنبر يفترض أن يكون أقرب للموضوعية والعدل والنقد المنهجي، فمهنية العمل الصحفي تخضع إلى قيم ومعايير وفنون خاصة في أدائها، إضافة إلى الموضوعية والبعد عن أنماط التحيز، فهل أعطى لهذه المهنية حقها؟ أم أن الواجهة التقليدية لم تعد مجدية في إيصال طريقته الفكرية، ففرض عليه الإفلاس تمريرها من خلال اقتحام العمل المهني، بل وإقحامه أيضا في تطرف الفكر واستبعاد الآخر؟! ما يزال الجدل بين نقيضي التيارات الفكرية يحوم حول الطريقة المثلى لتنظيم السلوك الإنساني بشكليات مفترضة في القواعد الاجتماعية؛ وهنا أشير إلى ما يظنه البعض بأنه الحق المطلق توجيه السلوك وتقوميه، هذا في ظل فقدان الخطاب الديني العاطفي قدرته على الإقناع، وحين أدرك ذلك أصبح يبحث عن منافذ أخرى للمحافظة على النزعة السيادية والنفوذ والوصاية على العقل الجمعي، وسلب الحريات والوصاية الدينية التي تسببت بعرقلة ما يطمح إليه التنوير في تشكيل النهضة الفكرية والاجتماعية. المسؤولية الحقيقة تكمن في التسامح مع الذات أولا، ومع اختلاف الآخرين واحترام آرائهم، فلا يمكن للعقل النابه الذي لا يُستَعبد أن يتقبل فكرة تعتمد على التسفيه والتحقير، بالطريقة التي تجعلها لا تليق بتقديمها من خلال الصحافة، فهذا السلوك لا بد وأن يرفض. نعم، نؤمن بحق الآخر في التعبير عن رأيه، ونؤمن في حق الحزبية التي من شأنها تحقيق المجتمع المدني حتى لو اختلفت، وفي النهاية سيكون القرار والرأي ونسبة الاقتناع به شأن المتلقي، ولكننا سنختلف على سبيل الإقناع للمتلقي، إن كان الترويج الفكري يأتي بشكل التنافس الإعلاني وإلغاء الآخرين على الطريقة التجارية، فالأمر الذي لا يمكن قبوله أن يعطى لهؤلاء الحق في الهجوم على الرأي الآخر، وإقصاء مصالح الآخر بطريقة متعسفة وهجومية بعيدة عن الموضوعية، على الرغم من أنه لا يملك أحد الحق بالوصاية على شؤون الناس وتحديد حاجاتهم، حتى لو كانت في شكل خطب وعظية، أو صبغت بالتدين مسبقا.