كثر الحديث هذه الأيّام في بروكسل وباريس عن ازدياد عدد المحتالين الظرفاء، الذين يرتادون المطاعم والمقاهي وهم في كامل أناقتهم، يستهلكون ما لذّ وطاب ويسعدون بالجلوس إلى طاولات فاخرة عامرة وينعمون بكلّ ما تشتهيه عيونهم وبطونهم، يتهامسون حيناً ويضحكون حيناً آخر ويتبادلون أطراف الحديث، ثمّ فجأة وفي غفلة من الجميع يغتنمون فرصة انشغال النّادل عندما يدير ظهره لهم وابتعاده لجلب المزيد من الطلبيّات؛ ليتسلّلوا خارج المكان في هدوء دون دفع الفاتورة! من عادات البلجيكييّن والفرنسيّين ارتياد المقاهي والمطاعم بكثرة؛ طلباً للترويح عن النّفس وقضاء أوقات ممتعة، ولهم في ذلك تقاليد راسخة ونواميس عريقة، لذلك تراهم في سعادة غامرة ساعة الجلوس في مقهى أو مطعم وكلّهم حبور وفرح، وإنّ دعوة لعشاء رومانسي في مطعم في المدينة لهي من أجمل هدايا حبيب متيّم بحبيبته، أو زوج عاشق لزوجته، ولكن ما كثر حوله الحديث هذه الأيّام في كلّ من بروكسل وباريس هو ازدياد عدد الذّين يتسلّلون بعد الأكل والشّرب من دون دفع الحساب، ففي بلجيكا أكّدت إحصاءات أنّ 464 مطعماً ومقهى تعرّضت في فترة عام واحد إلى عمليّات «نصب» بعدم دفع الفاتورة بعد الاستهلاك، أي أنّ نسبة 51 في المائة من مجموع المطاعم والمقاهي تعرّضت إلى عمليّة «تحايل» بهذا الأسلوب، وتبيّن أنّه غالباً ما تكون الفواتير غير المدفوعة مرتفعة ويطلقون عليها نعت «الفواتير اليتيمة». خرج ولم يعد وتأكّد وفق شهود عيان أنّ من يقومون بمثل هذا التحايل أو السّرقة هم عموماً أشخاص متأنّقون، وتظهر عليهم علامات الرّفاهية، ووجوههم وسيمة مشرقة، ويتصرّفون بشكل طبيعي وتلقائي، ولا يمكن للنّادل أن يشكّ في نواياهم المبيّتة أبداً، وأغلبهم من الفئة العمريّة بين 30 و40 سنة، وفي حالات نادرة أكبر سنّاً، والطّريف أنّه وفي حالات نادرة وعندما يتنبه النّادل إلى فرار زبون من دون أن يسدّد فاتورة استهلاكه، فإنّه يركض وراءه في الشّارع ليمسك به، ولكنّ قلّ أن ينجح في اللّحاق به. يقول نادل متذكّراً حادثة غريبة أن اثنين من المتقاعدين العجائز، عليهما علامات الوقار والرّصانة والحكمة، جلسا إلى طاولة في المطعم وأكلا أشهى الأطباق وأغلاها، ثمّ وفي غفلة من الجميع تسلّلا خارج المحل قبل تسديد الحساب والغريب أنهما كانا مرافقين لحفيديهما. ويحصل أن يكون المتسلّلون الفارّون خلسة دون دفع الفاتورة زوجين أو عشيقين، أو رجلاً بمفرده، أو امرأة وحدها أو مجموعة استهلكوا ألذّ الأطباق وأفخم وأغلى المشروبات، ثمّ وفي غفلة من النّادل يذوبون كالملح في الطّعام، ولهم في ذلك حيل كثيرة، ومن أطرفها أنّ المجموعة بعد الأكل والشّرب تنوّع طلبات الفواكه في آخر المأدبة، ويتعمّدون التنويع المبالغ فيه، وعندما يعود النادل محمّلاً بالطلبات يجد الكراسي فارغة. ويعلّق نادل في سخريّة مرّة على مثل هذا الموقف: «العيب الوحيد لهذا الأسلوب هو مغادرتهم المكان قبل تناول الفواكه والحلويّات». ومن أطرف أساليب المتحايلين الظرفاء أنّ البعض منهم يخرج من المحلّ بدعوى تدخين سيجارة (لأنّ القانون يمنع التدخين في الدّاخل)، ويترك على الطّاولة أو على الكرسيّ لطمأنة النّادل قبّعة أو سترة لا قيمة لها، أو هاتفاً جوّالاً قديماً ثم إذا خرج بعد أن استهلك ما لذّ وطاب يذوب في زحام المدينة. قوانين ومبرّرات وعلى الرغم من أنّ القوانين تعاقب من يرتكب مثل هذا التحايل بالسجن والغرامة الماليّة، إلا أنّه لا بدّ من إثباتات مؤكّدة للتدليل على الإفلات من الدّفع، ثمّ لا بدّ من إثبات أنّ هناك نيّة مبيّتة لعدم الدّفع، ثمّ كيف التقدّم بشكوى بأشخاص لا يعرف صاحب المطعم أو المقهى هويّتهم؟ علماً وأنّ القوانين في أوروبّا تمنع استغلال كاميرات المراقبة، إن وجدت، إلا في حالات قصوى وذلك حماية للحياة الشّخصيّة للأفراد. وهناك من يرى أنّ الحل يتمثّل في فرض الدّفع مسبّقاً على الزّبون عند تقديم الخدمة المطلوبة منه، ولكن أكثر الزّبائن لا يستلطفون هذا الأسلوب الذّي يرون فيه تشكيكاً مسبّقاً وغير مبرّر في نزاهتهم، وقد لا يعودون للمحلّ ثانيّة، وحتى أصحاب المطاعم والمقاهي يرفضون هذا الحل، ويفضّلون أن يبقى الحساب مفتوحاً للنّهاية للحثّ على مزيد الاستهلاك. والإشكال هو أنّ النّادل هو من يتحمّل مسؤوليّة الفواتير غير الخالصة أمام صاحب المحلّ، وهو من يسدّد المبالغ النّاقصة.