مهما كانت نتيجة الاستفتاء الذي نفذ بالأمس حول علاقة المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي، فإن الصراع بين أنصار المشروع الأوروبي ومعارضيه سوف يستمر لزمن طويل. لقد غير المشروع الأوروبي خريطة أوروبا تغييراً كبيراً، كما فعلت البروتستناتية والدعوة القومية والماركسية وغيرها من العقائد والمشاريع السياسية والثقافية والاقتصادية. وهذا المشروع رغم مضي ما يقارب الستين عاماً على تأسيسه لم يصل إلى مرحلة النضج بعد، ولكن رغم ذلك فإنه يؤثر تأثيراً كبيراً في المجتمع الدولي ومنه بالطبع المنطقة العربية. حتى ندرك مدى وكيفية تأثير الاتحاد في الآخرين وفي المنطقة العربية، لا بد لنا من العودة إلى الأهداف التي رغب آباء الاتحاد في تحقيقها من خلاله. كذلك لا بد لنا أن نرصد الأهداف التي يتوخى معارضو الاتحاد الوصول إليها. الاستفتاء على علاقة بريطانيا بالاتحاد يساعدنا على فهم أهداف الجهتين: القائمون على المشروع الأوروبي يرغبون في بناء مشروعهم بحيث يسمح للدول الأوروبية بأن تعمل باستمرار ومن دون توقف عن توطيد تعاونها مع بعضها البعض، أي ما يوازي تعميق الاتحاد. التركيز على الأسلوب هنا لا يعني إهمال الهدف، بل على العكس رفع عملية التقارب الأوروبي في حد ذاتها إلى مستوى الأهداف، واعتبار السير فيها معياراً للصواب. معارضو المشروع الأوروبي يعتبرون أن تعطيل الصيرورة الأوروبية يحفظ للدول الأوروبية كيانها المستقل وهويتها القومية لذلك طالب دافيد كاميرون، رئيس الحكومة البريطانية، في المفاوضات الأخيرة التي سبقت إطلاق الاستفتاء من الاتحاد الأوروبي إعفاء بريطانيا من الالتزام بأربعة من فروض أساسية، كان في مقدمتها تعهد لندن بالعمل دون توقف عن ترقية التعاون مع الدول الأخرى. ولقد وافق أقران كاميرون من زعماء الاتحاد، وإن على مضض على هذا الطلب البريطاني. وعاد كاميرون إلى لندن معتقداً أنه حقق مطلباً مهماً من مطالب معارضي الاتحاد، إلا أنه وجد في انتظاره حملة نقد عنيفة. ووصلت هذه الحملة إلى حد مقارنته برئيس الحكومة البريطاني نيفيل تشمبرلين الذي اتهم، في نهاية الثلاثينات بالاستسلام إلى هتلر. ذلك أن معارضي الاتحاد لا يؤيدون إصلاح الوضع الراهن للعلاقات البريطانية الأوروبية، بل يريدون تبديله، كيف وفي أي اتجاه؟ أبرز الجدال الذي أطلقته عملية الاستفتاء أن معارضي الاستفتاء ينقسمون إلى فريقين رئيسيين: الأول يريد انسحاب بريطانيا من الاتحاد معتبراً أن هذا الانسحاب يخلص بلده من الهيمنة الأوروبية ويستعيد للبريطانيين استقلالهم. ويشمل هذا الفريق حزب استقلال المملكة المتحدة بزعامة نايجل فاراج. الثاني، يعمل، بالطبع، على انسحاب بريطانيا من الاتحاد ولكنه يأمل ويتوقع ويدعو إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي. ولقد تزعم هذا الفريق مايكل غوف، وزير العدل في حكومة كاميرون.الرهان الكبير هنا هو أن الولايات المتحدة سوف تتمكن من تكريس الأحادية الأمريكية في النظام الدولي، وأنها سوف تتمكن من تكريس الزعامة الأمريكية في الإطار الأطلسي. وحيث إنه هناك علاقة خاصة تربط الولايات المتحدة ببريطانيا، فإن لندن سوف تستفيد من هذا الواقع لكي تحمي مصالح بريطانيا وتعزز مكانتها الدولية، من دون حاجة إلى العمل في إطار كيان قاري متعدد الأطراف كثير المتطلبات. هذا الرهان الأخير يأتي في مسار مضاد لثلاثة معايير رئيسية يمكن للمراقب العربي من خلالها تقييم مواقف الأطراف التي شاركت بالأمس في الاستفتاء البريطاني: أولاً، النظرة إلى النظام الدولي وإصلاحه. إن إصلاح الاعوجاج القائم في النظام الدولي يتطلب تطبيق العولمة الحقيقية التي تعطي لكل ذي حق حقه. هذا يعني إعادة النظر في عضوية مجلس الأمن، وتفعيل اللجنة العسكرية التابعة للمجلس، وتشكيل قوة تدخل سريع تابعة للأمم المتحدة، وإعطاء الجمعية العمومية صلاحيات أوسع. كذلك فإن إصلاح النظام الدولي يقتضي تعزيز التكتلات الإقليمية على كل صعيد سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي. ثانياً، تنظيم الهجرة عالمياً، فليس من الجائز أن تتحمل بعض الدول الصغيرة (لبنان، الأردن) تبعات الهجرات الجماعية التي تتم بسبب ظروف إنسانية قاهرة. كذلك ليس من الصواب أن تتحمل بعض الدول الكبرى مثل ألمانيا تبعات كبرى على هذا الصعيد، ما يفسح المجال أمام تعرضها لأزمات سياسية حادة وصعود الأحزاب العنصرية المتطرفة في أراضيها. لقد دفعت النائبة البريطانية جو كوكس حياتها ثمناً لما أظهرته من بسالة ونبل واندفاع إنساني في الدفاع عن المهاجرين وعن حقوقهم الإنسانية. ومن الأرجح أن جريمة اغتيال هذه المناضلة لم يكن من إعداد جهة حزبية أو سياسية معينة، ولكن الجهات التي شحنت أجواء السياسة بالبغض والكراهية، وتغاضت عن انتشار البلطجة السياسية وحتى الاجتماعية والرياضية التي انتشرت ممارساتها الكريهة في مباريات كرة القدم، تتحمل مسؤولية معنوية هنا. بالمقابل حبذا لو بقيت جو كوكس مع العرب يذكرونها بالخير والاحترام في شتى المناسبات الإنسانية. وحبذا لو كرم أصحاب الرأي كوكس بإبراز أهمية الخيارات التي تسعف المهاجرين ولا تغلق أبواب الرجاء والخلاص في وجوههم. ثالثاً، الإرهاب الدولي. كانت الحملة على الاتحاد بحجة أنه يفسح المجال أمام تسلل الإرهابيين إلى الأراضي البريطانية واحدة من الاعتبارات التي روجت تبريراً للحملة. ولا ريب أن الإرهابيين يستغلون ثغرات ينفذون منها لكي يقوضوا أمن الشعوب وسلام الدول. ولكن الانسحاب من الاتحاد لا يوفر، بالضرورة حلاً مناسباً لهذه المشكلة. بل بالعكس أي أن تنمية الأجهزة الاتحادية المعنية بهذا الأمر توفر درجات أكبر من المناعة ضد الإرهابيين وضد الإرهاب. فضلاً عن تطوير الأجهزة الاتحادية، فإنه من الضروري أيضاً تطوير المشاركة السياسية بين المهاجرين، خاصة من الدول التي تفتقر شعوبها إلى الممارسة الديمقراطية. raghidelsolh@yahoo.com