كنت اتابع منذ أيام عملية استعادة سرت من أيدي داعش من قبل قوات حكومة الوفاق الوطني الليبية، وكان يوم الثلاثاء الماضي من أكثر الأيام دموية منذ انطلاق العملية، حيث قتل 34 عنصرا من قوات حكومة الوفاق في الاشتباكات مع تنظيم داعش خلال محاولتها التقدم في مدينة سرت. وقد تحدثت في مقال سابق «ليبيا.. دولة على حافة الفشل» عن الوضع الأمني في ليبيا وقلت انه بعد مرور أكثر من أربع سنوات على قيام ثورة 17 فبراير، ما زال الملف الأمني هو الملف الأهم والعائق الأكبر أمام أي تحول ديمقراطي في ليبيا. وختمت بان تحول ليبيا من شرعية السلاح وهيمنة القوة إلى الشرعية الديموقراطية وحصر الصراع داخل قبة البرلمان لن يقتصر فقط في تسوية المعضلة الأمنية من خلال نزع السلاح من قبل الكتائب والميليشيات، وإنما عن طريق إعادة صياغة عقد اجتماعي يؤسس لدولة مدنية، وتستعيد به الثقة بين السلطة والشعب، والتي كانت مفقودة طوال الأربعة العقود الماضية في عهد النظام القذافي، ولم تستطع الحكومات السابقة استعادتها. إلا أن المتمعن بالحالة الثقافية الليبية والتي لا يمكن عزلها بشكل عام عن الحالة الثقافية العربية، يجد انها ثقافة لا تستند على مفاهيم الدولة المدنية التي تقوم على وجود قانون يحمي الحريات وحقوق الأفراد وعلى المواطنة والتعددية وقبول الطرف الآخر والتسامح والمساواة والديمقراطية كوسيلة للحكم الرشيد، وانما ثقافة لا تزال منحصرة في ثلاثية القبيلة والغنيمة والعقيدة، وهي المقاربة التي قدمها المفكر الراحل محمد عابد الجابري في كتابه العقل السياسي العربي، وهو الجزء الثالث من سلسلة مشروعه الفكري لنقد العقل العربي الذي درس فيها المكونات والبنى الثقافية واللغوية والسياسية والاخلاقية في العالم العربي. ففي كتابه العقل السياسي العربي، يخلص الجابري إلى أن الحالة العربية تعتمد على ذوي القربى والثقة بدل الاعتماد على ذوي الخبرة والمقدرة. والغنيمة باعتبارها العامل الاقتصادي في المجتمعات التي تعتمد على الخراج والريع. والعقيدة باعتبارها المنطلق الذي يحرك الجماعة ليس على أسس معرفية بل على رموز تؤسس الايمان والاعتقاد. هذه المحددات الثلاثة التي استند الجابري في دراستها على أطروحات الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، ودوبريه هي التي حكمت العقل السياسي العربي في الماضي ولا تزال تحكمه بصورة أو بأخرى في الحاضر من خلال الولاءات القبلية والعشائرية أو من خلال مظاهر الطائفية والتطرف الديني والعقائدي. فالقبلية لم تتحول بعد إلى تنظيم مدني سياسي واجتماعي واضح المعالم، والغنيمة ايضا لم تتحول إلى اقتصاد ضريبي أي تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد انتاجي. كما أن الفتوى ايضا لم تتحول إلى مجرد رأي ترفع عنها القدسية وتفسح المجال لحرية التفكير والاختلاف والتعامل بعقل اجتهادي نقدي. وعليه فالحالة السياسية في ليبيا وباقي بلدان الربيع العربي هي جزء واسع من ثقافة مجتمعات تربت على هذه القيم الثلاث حتى أصبحت جزءا منها، وبالتالي فإن سقوط الأنظمة السابقة لم يؤد الى بناء دولة مدنية حديثة، بل ان الهدم كما شاهدنا في بلدان الثورات أدى إلى الفوضى والفوضى الطائفية. فالعالم العربي لم يكن ليتحمل ثورات راديكالية لان القوى الاجتماعية والطبقية التي تحمل مفاهيم الدولة المدنية والمرشحة لحمل هذا المشروع لم تتشكل. وكما ذكرت سابقا، فالحل الأمثل لاحتواء الصراع والفوضى في ليبيا يتمثل في التمهيد لأجواء مصالحة وطنية شاملة بين القوى الثورية والاتفاق على صياغة عقد اجتماعي جديد، يضمن ادماج كل القوى في مسار الاصلاح والتغيير والذي سيساهم في الاستقرار والسلم الاهليين. دون هذا المصالحة فإن الصراع سيستمر ويتفاقم والنهاية ستكون لصالح قوى ثورية لا تزال تحمل القيم الحقيقية للمجتمع المتمثلة في القيم الثلاث سابقة الذكر.