بقلم : د. خالد محمد الصغِّير عندما قررت قبل سنوات مضت مواصلة دراساتي العليا في الخارج طلب مني والدي عليه رحمة الله تعالى الواسعة ليلة مغادرتي أرض الوطن أن ألتقيه لأمر في غاية الأهمية، وحينها خاطبني بقوله: (أريدك أن تعد نفسك سفيراً لبلدك، وأن تعمل بكل ما أوتيت من قوة لتمثله خير تمثيل، كما أنني أتمنى منك أن تبذل قصارى جهدك من أجل استغلال كل فرصة سانحة لتعلم المفيد، وأن تُري الناس هناك من خلال أفعالك كم أنت من معدن بلد طيب الأعراق والأخلاق). وفي ليلة وصولي إلى أرض الوطن بعد سنوات عدة أمضيتها مغترباً طالباً للعلم بادرني رحمه الله بالسؤال التالي: ماذا تعلمت خلال السنوات التي أمضيتها في بلد الغربة، وكيف ستنقل لأفراد مجتمعك الكم المعرفي والخبرات التي اكتسبتها من هناك؟ وهو ذات السؤال الذي ما فتئ زملائي، وأقاربي، وأصدقائي يطرحونه عليّ بين فترة وأخرى. وجوابي الذي اعتدت أن أجيب به أنه تولد داخلي، وبخاصة على المستوى الشخصي والاجتماعي نواحي ذهنية مهمة تتعلق بالذهنية والتفكير المنفتح، واستشعار أهمية احترام الناس من غير بني قومي، وإجادة فن الحوار، وفهم أكثر لقيمة العمل، والتخطيط للمستقبل. هذا فضلاً عن قيم عملية، ومهنية عالية اكتسبتها أثناء دراستي في الخارج. من أوائل الأمور الحسنة الايجابية التي تعلمتها وأنا على رأس بعثتي الدراسية ضبط إيقاع عقلي على منحى ينحو أكثر صوب الانفتاح، وعدم التقوقع حول إطار ضيق أفقه ومداره. وقد تبين لي أن الاتصاف بذلك يقود في نهاية المطاف إلى تحقق نواح ايجابية على عدة مسارات. فصاحب العقلية المنفتحة يكون على استعداد أكثر لتقبل الأفكار، والعادات والتقاليد التي يحملها الآخرون من دون أحكام مسبقة بالحكم لها، أو حتى عليها. كما أنها لا تجعل من أفق المرء محدوداً في إطار ضيق المساحة، وذا استعداد لتقبل والتفاعل مع ما يرده من أفكار وقيم، وإن تعارضت مع ما نشأ وتربى عليها، وفي الوقت نفسه وجدت أن الذهنية المنفتحة بمثابة النافذة التي تجعل من المرء ينشط لاقتناص الفرص التي تلوح في الأفق والتي عادة ما تكون مغيبة بعيدة المنال عن صاحب الذهنية الضيقة الأفق. ووجدت أيضاً أن صاحب العقل المنفتح يتحلى بشجاعة الانفتاح على سعته الذاتية متخطياً بذلك محدوديته الخاصة، والمنطق الضيق. وهذا لا يعني أنني أثناء شروعي ومسعاي في تبني هذه الخصلة السلوكية المنطوية على المنهج الانفتاحي أنني لم أكن لأرفض أي شيء، ولا أعمل على تمحيص ما أتلقاه، بل على العكس من ذاك، ولكن ضمن إطار ومنهجية ووسائل مختلفة عما كنت سابقاً أوظفه لتحقيق ذلك. كما أنه لم يكن يعني قبولي المطلق لكل ما يرد إليّ، ولكنه جعلني غير قاصر بقبولي لما لدى الآخر في حدود ما إذا كان فقط متوافقا مما لدي من آراء وأفكار. إبداء قدر كبير من الاحترام والتقدير لأبناء الأمم والشعوب الأخرى كان أمراً آخر اكتسبته من خلال دراستي في الخارج. وهذا يأتي بشكل لافت بعد استشعاري لفكرة أن كوكبنا مشكّل من عدد من الثقافات، واللغات، والأجناس، والخلفيات. وهذه الاختلافات يمكن أن تكون مصدر سعادة ومبعث فرح متى ما قررنا أن نبدي قدراً من الاحترام والتقدير لمن يختلفون عنا، ونتعايش مع تلك الاختلافات والتباينات. وهذا نابع أيضاً من إدراكي أن احترام الخصوصية الثقافية لكل أمة يتطلب احترام حق أبناء المجتمعات الأخرى بالاحتفاظ بثقافاتهم المختلفة، وقطع الطريق على محاولة دفعهم بعيداً عنها، أو إجبارهم على التخلي عنها بحجة عدم تناغمها مع قناعاتنا الثقافية. وقادني إلى ذلك أيضاً قناعة مؤداها أن تقدير الأشخاص ينبغي أن يكون لذواتهم وقدراتهم بغض النظر عن أعراقهم، وأجناسهم، وخلفياتهم الثقافية. وقد استطعت اكتساب هذه الخصلة الحميدة بعد القيام بعدد من الأمور. رحلة الألف ميل هذه بدأتها بتكوين معرفي لأهمية سلوك احترام الآخر، ثم بعد ذلك تعلمت العديد من الطرق والوسائل التي جعلتني بواسطتها أبدي قدراً أكبر من الاحترام للآخر والتي يأتي على رأسها احترام وإجلال آراء الآخرين، والنظر بعين التقدير لما يحبه وما لا يحبه الآخرون، واحترام مشاعرهم وأحاسيسهم، ومحاولة التعلم مما لدى الآخرين، وتحاشي محاولة تصنيفهم، واحترام وتقدير ثقافات وخلفيات الآخرين، وعدم الانسياق وراء مسلك الانحياز والعنصرية، واكتساب القدرة على إدراك أهمية وجود الاختلافات بين الناس بدلاً من إبداء الخوف من كون ذلك جزءاً من حقيقة وجودنا على ظهر البسيطة. ومما تعلمته على الصعيد الاجتماعي من خلال تجربة الابتعاث للخارج فن الحوار والنقاش، وهو في ذاته ليس بالأمر الجديد كليّةً، ولكن متى، وكيف، وبأية طريق وأسلوب نحاور ونناقش؟ كانت عناصر ومهارات ذات أهمية قصوى في فن الحوار تحتاج إلى مزيد من التدريب، والممارسة الميدانية كان لتواجدي في بعثة خارجية أثر في اكتسابها. وأهمية هذا المبدأ المهم منبعه أن قبول الرؤى والأفكار المقدمة يتوقف بشكل كبير وحاسم على الكيفية التي تم من خلالها عرض تلك الرؤى والأفكار، كما أننا يمكن أن نحقق الكثير في حياتنا من خلال تواجد وتلاقح العديد من الآراء والأفكار المتخلفة التي يمكن أن نتبادلها، وتسهم بإثراء تجاربنا، ومعلوماتنا، وتمنحنا مساحة لسعة آفاقنا ومداركنا. وخلال محاولتي تعلم هذه المهارة بدت لي العديد من الأمور التي منها أن الاختلاف في الرأي جزء من الطبيعة البشرية، وأن وجود آخرين بجانبنا نشاركهم مع ما نحمله من أفكار وآراء أمر عظيم الشأن، وبخاصة أنه لا يوجد شخص يملك الحقيقة وحده، ويعرف كل شاردة وواردة في كل حقل وميدان. كما أنني استشعرت أهمية مناقشة الأفكار المطروحة للنقاش والابتعاد مسافات عن مهاجمة الآخرين أثناء الحوار والمناقشة. وإلى جانب ذلك أدركت أهمية بدء النقاش والحوار بإبراز الجانب الايجابي الذي من خلاله يتم الإتيان على ذكر قيمه وأهمية رأي الطرف الآخر. ولا يقل أهمية عن ذلك ضرورة الاستناد إلى مبررات وأسس قوية ومقنعة عند النقاش والحوار، والابتعاد قدر الإمكان أثناء الحوار عن العصبية، و المماراة، والجدلية، ومحاولة إثراء الموضوع الخاضع للنقاش والمدارسة بكم هائل من الآراء المتفتحة، والجيدة، والنيرة. وأثناء مواصلتي لتعليمي العالي في الخارج سعيت جاهداً إلى جانب تبني هذه القيم والممارسات الاجتماعية ذات الصبغة الإنسانية والمردود الايجابي العالي القيمة إلى تبني بعض القيم المهنية التي في مقدمتها الاحترافية المهنية، والدقة، والانضباطية، والتخطيط. وكذلك تقدير جهد الآخرين والاعتراف بعطائهم، وإيلاء مزيد من العناية بالكيف على حساب الكم في كل ما أنوي القيام به من أعمال. إن حصولي على فرصة الابتعاث والعيش في الخارج لسنوات ساهمت ولا شك في سعة أفقي، وعلمتني العديد من السلوكيات والصفات. كما أن هذه التجربة الثرية غرست في ذاتي، أو بالأحرى علمتني بطريقة غير مباشرة العديد من القيم الإنسانية، والأكاديمية، والمهنية الاحترافية التي كان لها الفضل في إعادة تشكل ذاتي من جديد، والمساهمة في تهذيب نظرتي، وجعل حكمي على الكثير من الأمور أقرب إلى الواقعية، وأكثر عقلانية، وشمولية، ودقة. والآن أرى أن الحياة بدون امتلاك هذه الصفات والسلوكيات ليس لها معنى، كما أشعر أنني بامتلاكها والعمل بموجب ما تقتضيه إنسان مختلف. وأشعر بالمسؤولية الجمة في أن عليّ في الوقت الذي أقوم بالتصرف وفق هذه المبادئ البناءة بصفتها جزءاً من ممارساتي اليومية أن أحاول الجهد أن أغرس تلك القيم في محيطي وفي من أعمل إلى جانبهم حتى يتسنى لي رد جزء من الدين الذي في رقبتي لوطني الحبيب الذي منحني هذه الفرصة العظيمة، ولكي أسهم بجهد المقل مع بني جلدتي في الدفع قدماً بعجلة مسيرة التنمية الشاملة التي تمر بها بلادنا العظيمة. نقلا عن الجزيرة