×
محافظة المنطقة الشرقية

عمل الشرقية يضبط 202 مخالفة وينذر 40 منشأة

صورة الخبر

صحيح أن الكثير من الطائفية المُستترة عرفته الحياة العامة السورية، خصوصاً في السياسة ومؤسسات الدولة وعالم الأعمال، حيث كانت أهم أدوات الأسدية لحُكم البِلاد لعقود، ولإدارة أشكالٍ من التوازنات المعقولة بين الجماعات الأهلية. لكن أيضاً كان ثمة ما هو مخالف تماماً لذلك في الحياة اليومية المُجتمعية السورية، مما تنامى بفضل ديناميات تنموية واجتماعية واقتصادية وتعليمية حدثت بكثافة خلال العقود الخمسة الأخيرة. فقد كانت سورية زاخرة بالكثير من أشكال «الاختلاط الديموغرافي» والتعايش والسلام الاجتماعي المعقول، وباتت جميع البيئات السورية ملونة بنسبٍ متفاوتة من السُكان والحساسيات. لقد بدأت تتبلور ثقافة اجتماعية مليئة بالشيفرات والرموز الثقافية واللغوية السورية الخاصة، لم يكن أقل منها تبلور طبقة سورية وسطى ما، وإن كانت مُنهكة اقتصادياً، لكن مئات الآلاف من السوريين الأعلى تعليماً كانوا يعتبرون أنفسهم سوريين مدنيين أولاً، عابرين للهويات المذهبية والدينية الجهوية. لم يكن من خارج هذا الواقع تضخم الكثير من المُدن المركزية وتنوعها، فدمشق وحلب وحُمص واللاذقية غدت إلى حدٍ معقول «مُدنا متروبولية» بتشكيلاتها الاجتماعية. مثلاً، كان ثمة في مدينة حلب وحدها قُرابة نصف مليون كُردي سوري، وما يقارب مليون كُردي في دمشق، كانوا محملين بنزعة قومية كُردية، لكنهم لم يكونوا يستبطنون نزعات من الكراهية والعدوانية تجاه محيطهم الاجتماعي، وكانت مستويات التفاعل بينهم وبين المُحيط بالغة الثراء، وكذلك كان ثمة عشرات الآلاف من الكُرد السوريين في حُمص والساحل. الأمر نفسهُ كان ينطبق على العلويين السوريين، الذين بفضل ديناميات الاقتصاد والامتيازات في مؤسسات الأمن والدولة، تركوا بيئتهم الجغرافية في الساحل واستقروا في جميع الجغرافيات السورية. فعشرات آلاف العائلات العلوية استقرت في مُدنٍ قصية من سورية، حيث بقيت لأكثر من أربعة عقود، حتى أصبح الكثير مُنهم بحُكم الواقع أجزاء من تلك البيئات. وهو أيضاً ما ينطبق على باقي الجماعات الأهلية. كانت ديناميتا التعليم والاقتصاد الفردي قد ساعدتا على نمو الكيمياء الاجتماعية السورية وحيويتها. فالجامعات المركزية الحُكومية الخمس ضمت مئات آلاف الطلبة السوريين القادمين من كُل الأطراف، حيث سمح تطور المواصلات بتنقلهم السلس حتى بوتيرة أسبوعية، ما بين مناطقهم وهذه المُدن. وبسبب تمركز التنمية في تلك المُدن الخمس حيث الجامعات الحكومية، فالغالبية العُظمى من هؤلاء الطلبة الجامعيين استقروا في مناطق دراستهم، وغدت علاقتهم بأريافهم ومُدنهم الصغيرة أقل حيوية، وبالتالي أقل ولاء. هذه الطبقة السورية من المُتعلمين نفسها، كانت قد فرزت الطبقة الوسطى السورية بكل تشوهاتها ومُشكلاتها الاقتصادية، كما فرزت مئات الآلاف من الشُبان السوريين المُنخرطين في شبكة الاقتصاد السوري المُعولم والاحتكاري، كشركات النفط والاتصالات والسيارات الخ... ولأسباب مُختلفة مُتعلقة بالولاء لنمط الحياة وشبكة العلاقات وضرورات العيش المُشترك في المُدن، كانوا الأقل طائفية وقومية، بل الأقل مُبالاة بالسياسة والأيديولوجيات عموماً. شيء رديف لذلك تأسس بسبب طبيعة الاقتصاد. فسورية لم تكن دولة ريعية بالمعنى النفطي. فالريعية كانت فقط شكلاً من التضخم البيروقراطي والاستيعاب الوظيفي من قِبل السُلطة، أي شكلاً من البطالة المُقننة ليس إلا. لكن السوريين في عمومهم كانوا، في دورة الحياة الاقتصادية الحقيقية، يحيون في نمط من «اقتصاد الظل» والخدمات والتي تجاوزت نسبتها ثلاثة أرباع القيمة الكُلية للاقتصاد السوري. فشبكات التهريب والعمل في العُمران والنقل وتصدير العمالة الرخيصة إلى دول الجوار والعمل في بسطات البيع المُفرق والصناعات البسيطة والمتوسطة والصناعة لمصلحة الشركات العالمية، كانت جوهر الاقتصاد السوري. وهذا عنى أن سورية لم تعد دولة زراعية بالمعنى التقليدي، ولا حتى دولة ذات اقتصاد مركزي مُنقاد من الدولة، بل على العكس تماماً، رتّب السوريون حياتهم الاقتصادية وكأن الدولة غير موجودة تماماً، ولا تتكفل بأي شيء، بل مُجرد ثقل اقتصادي. لقد تطلبت تلك الحياة الاقتصادية كثافة في الكيمياء الاجتماعية اليومية وتجاوز الكثير من خطابات الهوية. لكنها أيضاً كانت دافعاً لتبلور واستبطان الغُبن من قِبل ملايين السوريين، وأن هذه الكيمياء في دورة حياتهم اليومية يجب أن تدفهم إلى المزيد من الانتظام السياسي والثقافي والطبقي المُستقل عن السُلطة وهيمنتها على المُجتمع السوري. وهذا ما كان النِظام السوري يمنعه بكُل شكل، فيحطمه ويخلق ديناميات ومؤسسات لقمع أي مصدر له، وهو الشيء الجوهري الذي تسبب باندلاع الثورة ورسم الملامح الجوهرية للسياق الذي حكم تطورها. فشيء مما كان قد قاله ماركس عن الرأسمالية التي تحمل خرابها في داخلها كان ينطبق على سورية ومجتمعها الحيوي. ذاك أن تلك الحيوية من دون حريات عامة أو اعتبار لمكانة البشر، تغدو لا شيئاً، بل عتبة على درب الخراب.     * كاتب سوري