لا يزال الحديث هنا محاولة للتفكير في شكلين من أشكال التفكير وشكلين من أشكال التواصل: الجدل والحوار. المقالة السابقة كانت مخصصة لفهم الجدل والحوار كشكلين من أشكال التفكير. أي كآليتين للفهم والإفهام. يشترك الحوار والجدل في كونهما يتأسسان على وجود الآخر. التفكير الجدلي يتحرك دائما بوصفه مقابلا وفي علاقة مزاحمة لفكرة أخرى. الحوار كذلك يوجد كتفاعل مع آخر هناك لو اختفى تلاشى معه الحوار. أيضا الجدل والحوار تأسسا على معنى الاختلاف والمغايرة بمعنى أن الحوار يقوم على جدلية التواصل والاختلاف. إذا تشابه المتحاورون أو أعطى أحدهم ذاته للآخر توقف الحوار وأصبحنا أمام شخص واحد في صورتين. الجدل كذلك يقوم على اختلاف الأفكار ومقابلة كل فكرة للأخرى. حين يتوقف الاختلاف يتوقف الجدل كذلك. الفرق الذي وصلنا له في المقال السابق هو أن الجدل تفكير إجرائي بينما الحوار تفكير غائي. الجدل هنا هو آلية لفحص ومقابلة الأفكار قد يحدث لأي غرض. الحوار في المقابل مقيد بغاية التواصل وفتح آفاق ونوافذ جديدة. كل حوار يتضمن جدلا وليس كل جدل يؤدي لحوار. الحوار علاقة أشمل مع الذات والآخر والكون والجدل آلية ومنطق قد تتحقق داخل الحوار وقد تتحقق داخل فكر غير حواري أو فكر قطيعة. لكن ماذا عن الجدل والحوار كشكلين من أشكال التواصل الإنساني؟ بدلا من تحليل العلاقتين نظريا سأعود هنا إلى حالة تاريخية مشهورة حضر فيها الحوار والجدل بشكل واضح. إنها أثينا القرن الخامس قبل الميلاد. أثينا سقراط والسفسطائيين. السفسطائيون هم مجموعة من الفلاسفة الذين احترفوا الجدل. بمعنى أنهم من المتخصصين في المنطق والنقد ومقابلة الحجج والبراهين لكنهم، أو على الأقل جزء كبير منهم، جعلوا هذه القدرة مهنة لهم يعتاشون منها. بمعنى أنهم عملوا كمعلمين لأولاد المقتدرين يدربونهم على فنون القول والخطابة والتأثير على الجماهير ونقد الخصوم وتفكيك كلامهم. أثينا كانت بيئة طلب كبيرة لمثل هذه المهارات لعدة أسباب منها أن النظام السياسي كان في حالات متعددة نظاما ديموقراطيا يقوم على الإقناع والتأثير على الناخبين. أيضا كان النظام القضائي الإغريقي يقوم على إجراء محاكمات علنية بحضور عدد كبير من المحكّمين من عموم الناس ويتبادل الادعاء والدفاع تبادل الحجج والخطابات لإقناعهم. هذه البيئة جعلت إجادة الجدل وسيلة من وسائل النجاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. في المقابل، عندنا سقراط والذي كان أيضا ماهرا ومجيدا لمهارات الجدل والخطابة ومقابلة الحجج وطرح الأسئلة ولكنه رفض أن يتحوّل حرفيا لها بمعنى أنه رفض أن يعتاش على تعليم الجدل. كان سقراط في إشكال عميق مع كثير من السفسطائيين ومع منهجهم الجدلي. كانت مشكلة سقراط الأساسية مع أطروحتين أساسيتين لدى السفسطائيين، الأولى معرفة كل شيء والثانية أنه لا يمكن معرفة أي شيء. لاحظ هنا أن كلا الدعوتين تعيقان التواصل المعرفي. الجماعة الأولى كانت تعتقد أنها بقدراتها الخطابية والمنطقية الجواب عن كل سؤال. المعرفة كانت تتحقق لديهم بمجرد رسمها بالألفاظ داخل علاقات معقولة ظاهريا. مهمة سقراط هنا هو الدخول في حوارات دقيقة مع أصحاب هذه الدعاوى لكشف جهلهم. كثير مما نقله أفلاطون عن سقراط يصب في هذه المهمّة، مهمة تفكيك الدعاوى النهائية وفتح الباب مرّة أخرى للسؤال والتفكير. في المقابل الجماعة الثانية كانت تقول بعدم إمكان المعرفة أو التشككية الجذرية. والتي تقول بأن إمكان المعرفة مستحيل. أيضا باستخدام آليات الجدل والخطابة يمكن فتح ثغرات في قلب أي جواب مطروح على أي سؤال، وبالتالي فإن البحث عن معرفة يقينية هو مجرد وهم وسعي وراء السراب. على الفيلسوف أن يزهد عن هذه المهمة ويستمتع فقط بالتفكيك بعد أن عزّ البناء. سقراط أيضا كان على إشكال كبير مع هذه الجماعة باعتبار أنه يعتقد أن العزوف عن البحث في العدالة والخير والحق يعني كارثة بشرية وانعداما لوجود أفق لحل المشكلات التي تهدد حياة البشر وحياة سقراط نفسه. سقراط كان متهما بإفساد الشباب بجدالاته وأسئلته وإهانة آلهة الإغريق ومقدساتهم مما أدى به إلى الإعدام. الخطر برأي سقراط يكمن في شخصيتين: شخصية تدعي أنها تعرف الحق المطلق وشخصية يائسة من أي قول عن الحق المطلق. سقراط الذي كان يطوف على الناس في الأماكن العامة يحاورهم كان يرغب في استمرار الحوار والتواصل بين الناس. كان يحلم بأن يستعيد الناس تلك الرغبة والثقة في إمكان فتح آفاق جديدة للفكر والحياة والعيش المشترك. الصورة السابقة يمكن أن تعطينا تصورا للفرق بين الحوار والجدل كشكلين من أشكال التواصل الإنساني. سقراط هنا هو جدلي ولكن ليس فقط. بمعنى أنه جدلي ولكن هذا الجدل بالنسبة له أولا لم يكن حرفة لا تتجاوز قيمتها المكسب المالي أو الاقتصادي أو السياسي وثانيا لم يكن الجدل هذا غاية في ذاته أو عملا يمكن أن يستغرق قيمته ومعناه بذاته. الجدل بالنسبة له كان شكلا من أشكال التواصل مع الناس لتحقيق ربما الهدف الفلسفي الأول "اعرف نفسك". معرفة الذات وما يتعلق بها من القيم والأخلاقيات لا تتحقق ضمن آلية جدل غير مدفوعة بقيم تتجاوز النفع الضيق أو آلية جدل يائسة من تحقيق المعرفة. الحوار هنا نوع من الثقة في المعرفة والإنسان. ثقة في أن المعرفة ممكنة وأن الإنسان، كل الإنسان، قادر على الوصول إليها. هذا الحوار سيواجه إعاقة هائلة من الاقتصار على آلة الجدل بدون أن تتحرك داخل قيم ومعانٍ تجعل منها ذات هدف وغاية. المجادلة بلا قيم تواصل ورغبة في التعرّف على الذات والآخرين هي فقرة في حلقة مقطوعة الأطراف. في المقابل الحوار هو وصل لهذه الأطرف وإعادة للحياة فيها.