يبدو المشهد الداخلى الفرنسي، شديد التأزم فى ظل استمرار الاحتجاجات النقابية المناهضة لقانون العمل الجديد والإضرابات المتتالية فى مختلف قطاعات الدولة، والتى أحدثت أزمة غير مسبوقة داخل المدن الفرنسية. وبدأت هذه الأزمة عندما أعلنت وزيرة العمل الفرنسية ميريام خمرى فى مارس الماضى عن قانون العمل الجديد الذى اعتبره كثير من الفرنسيين يخدم مصالح رجال الأعمال واستثماراتهم على حساب العاملين الذين حرموا من حقوق كثيرة كانت مكفولة لهم منذ عقود. وكان من أهم ما نص عليه هذا القانون زيادة عدد الحد الأقصى لساعات العمل فى اليوم من 10 إلى 12 ساعة، وإمكانية تسريح العاملين الذين يرغبون فى إجراء تعديلات على عقود عملهم، وتقليل أجر ساعات العمل الإضافية، كما يمنح القانون أرباب العمل صلاحية زيادة عدد ساعات العمل، وخفض الرواتب. وأثار هذا القانون جدلا واسعا داخل المجتمع الفرنسى، ورفضه غالبية نواب البرلمان غير أن الرئيس فرنسوا أولاند ورئيس حكومته مانويل فالس قد أعلنا تمسكهما بهذا القانون من خلال اللجوء الاستثنائى إلى البند 49.3 من الدستور الفرنسى، الذى يمنح الحكومة حق تبنى القوانين دون اللجوء إلى التصويت، ويرى الرئيس أولاند أن هذا القانون يعد بمثابة مبادرة إصلاحية ضرورية لخدمة مصالح البلاد، وأنه سيمكن الاقتصاد من خفض ظاهرة البطالة ومواكبة تطورات سوق العمل، وأكدا عزمهما على التمسك بهذا القانون وعدم الرجوع عنه. وتسبب هذا القانون فى اندلاع احتجاجات صاخبة فى الشارع الفرنسى تقودها حركات نقابية من أهمها نقابة الاتحاد العام للعمل سى جى تى، كما أدى إلى وقوع إضرابات واسعة شملت العديد من المرافق الحيوية للدولة كوسائل النقل العام ومحطات توليد الكهرباء، فضلا عن إضراب عمال النظافة وهو ما أدى بدوره إلى تكبد الدولة خسائر فادحة. وتظهر استطلاعات الرأى أن أكثر من 60% من الفرنسيين المستطلعة آراؤهم يرفضون قانون العمل الجديد 51% منهم من أنصار اليسار و44% من الجمهوريين اليمينيين، ويعكس هذا الأمر حالة الانقسام الواضحة التى باتت سائدة داخل معسكر الاشتراكيين فالعديد من القيادات الاشتراكية، من بينهم وزراء سابقون عدة مثل أرنو مونتيبور وبونوا هامون، ترى أن تبنى الرئيس أولاند لهذا القانون يعد تأييدا لسياسات ليبرالية تنحاز لأرباب العمل والشركات على حساب أوساط الطبقات الفقيرة والمتوسطة والمهاجرين، التى كانت ــ حتى وقت قريب ــ تشكل العصب الأساسى للناخبين الاشتراكيين وهو ما يعد مخالفا لمبادئ الاشتراكية. كما يرى هذا الفريق من الاشتراكيين أن فكرة إصلاح قانون العمل، التى تبلورت نهاية العام الماضى لم تكن أبدا مدرجة فى البرنامج الانتخابى للرئيس أولاند عام 2012، وهذا ما يفسر سخط شريحة كبيرة من النقابيين والاشتراكيين والمواطنين الفرنسيين الذين تحمسوا للتصويت لأولاند. وانعكست حالة السخط هذه فى استطلاعات الرأى التى أظهرت أن 16% فقط من الفرنسيين المستطلعة أراؤهم يؤيدون الرئيس الفرنسى ويعتبرونه رئيسا جيدا. وتنتقد هذه القيادات الاشتراكية الرئيس الفرنسى بتعيينه زعيم الجناح الليبرالى فى الحزب مانويل فالس، رئيسا للحكومة وهو الأمر الذى أفضى إلى اعتماد سياسة حكومية يمينية بعيدة عن مبادئ اليسار الفرنسى. وقبل عشرة أشهر من الانتخابات الرئاسية، يبدو الرئيس أولاند فى مأزق حقيقى أمام هذا التصعيد غير المسبوق على المستوى النقابى والحزبى والشعبى، فهذه الأزمة تعد واحدة من أكبر الأزمات الاجتماعية التى شهدتها البلاد والتى تبدو معها جميع المخارج مغلقة بین حكومة تتمسك برفضها سحب قانون العمل الجدید أو تعدیله جذریا ونقابات مصممة على رفض القانون وتهدد بشل البلاد. والمؤكد فى كل ذلك أن هذه الأزمة ستؤثر بقوة على فرص ترشح الرئيس أولاند فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث إنها ساهمت فى ضعف موقفه واهتزاز مصداقيته أمام ناخبيه فى ظل تزايد معدلات البطالة وتراجع مؤشرات الاقتصاد وهو ما سيجعل فرص ترشحه ضئيلة فى انتخابات عام 2017.