جرى بسهولة نسبية التخلص من ديلما روسيف رئيسة البرازيل ووريثة «لولا»، زعيم حزب الشغيلة والرئيس السابق للبلاد، والرمز المجسد لإمكان تحرر هذا البلد الهائل من هيمنة الجارة القوية، واشنطن، ومن الاستباحة التي يمثلها المنحى النيوليبرالي. وهو هنا يترجَم ليس فقراً وبطالة فحسب، كما في كل مكان على أية حال، بل نهباً عاماً عارياً تمارسه قلة من المتسلطين على السلطة والثروة، يفرِّخ ديكتاتوريات عسكرية وفلاحين محرومين من الأرض، وكثيراً من «الفافيلّا» العملاقة، أي أحياء البؤس المدقع التي يتكدس فيها النازحون من الأرياف العاطلون من العمل، والعمال والمستخدمون المسحوقون بالاستغلال، وينتشر فيها استهلاك المخدرات، علاوة على كل أنواع الجريمة. لا جدال في قبح انحدار «حزب الشغيلة» (الحاكم فعلياً منذ 2002 مع انتخاب «لولا» للمرة الأولى للرئاسة) الى الفساد، بما يشمل روسيف، لاتهامها شخصياً بتلقي رشاوى وتجاهلها رشاوى واسعة مقدمة لرفاقها مقابل تسهيل أعمال شركات على رأسها «بتروبرا»، كبرى شركات الطاقة في البلاد. والأفظع، محاولاتها إنقاذ زعيمها سيلفا دا لولا نفسه من الخضوع للمساءلة القضائية بتهمة الرشوة، بتعيينه في منصب حكومي يمنحه حصانة ضد السجن. يستدعي ذلك من جديد أدباً فلسفياً وسياسياً يبدأ من «ضعف» الإنسان أمام المغريات وقابليته للاعوجاج، ولا ينتهي بالإنتاج الفكري الغزير الذي يتفحص ما سُمّي في الاتحاد السوفياتي السابق «نوماكلاتورا»، أي النخبة التي ينتجها الاستئثار بالسلطة المتحكمة بالحياة الاقتصادية، والقامعة للنقد بفضل البوليس السياسي. وهي معادل ما يسمى «المؤسسة» المهيمنة الخفية، أو establishment في البلدان الغربية، وإن تحققت الأولى في ظل شعارات إيديولوجية «ثورية» أصبحت مجرد ادعاءات وكذب وقمع يفاقِم بشاعة الموقف. ولا جدال في المقابل بأن فترة رئاسة لولا (2002-2010) تميزت بما يتوافق عليه أصدقاؤه وأعداؤه: خرج 40 مليون برازيلي في تلك السنوات القليلة من الفقر المدقع، وهؤلاء ربع عدد سكان البلاد، وحققوا تقدماً كبيراً في أوضاعهم العامة (السكنية والصحية والتعليمية والإنتاجية) بفضل برامج اجتماعية عملاقة. وتراجعت في تلك السنوات وحتى في ظل روسيف، شبكات الاتجار بالمخدرات وكذلك معدلات الجريمة التي كانت مراتعها تلك الفافيلا المحيطة بالمدن الكبرى. ووصلت نسب النمو الى 7.5 في المئة في 2010، بينما هي تقارب اليوم ناقص 3 في المئة، وعادت خدمة الدين تستهلك 45 في المئة من مصاريف الدولة، ما كان يمكن تحمله لو كانت نسب النمو عالية. في تلك السنوات الذهبية، نشأ تجمع «بريكس» الذي يضم البرازيل وروسيا والصين والهند وإفريقيا الجنوبية، ما يعادل نصف سكان المعمورة، وبعد تطوير التنسيق، عقد قمته الأولى الرسمية في 2009 وأسس «منتدى بريكس» في 2011 وصندوقه النقدي الخاص وأخيراً بنك التنمية العالمي، وهي مؤسسات مصاغة للتحرر من سطوة معادلاتها النيوليبرالية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان اللذان تتحكم بهما واشنطن. وكانت البرازيل والهند وإفريقيا الجنوبية من أكبر البلدان التي عصفت تدابير تلك المؤسسات بها، عبر قروضها التي اشترطت (فيها كما في سواها) «إعادة هيكلة الاقتصاد»، المعادل الحرفي للتخلي عن التقديمات الاجتماعية ولتشريع الأبواب أمام حرية حركة الرساميل العالمية بإسقاط كل الحمايات للوفاء بالقروض، بل للحصول عليها ما تسبب بكوارث في القارات الثلاث منذ السبعينات، وهو ما نشاهده اليوم في عينة بلد أوروبي صغير كاليونان. والبرازيل، صاحبة سابع اقتصاد عالمي، رائدة في بريكس وشريك اقتصادي كبير للصين التي كانت تستورد منها البترول بنهم خلال العقد السابق، ما وفر ازدهاراً سهلاً وعوائد جرى إلى حـد كبير الاتكال عليها كرافعة للاقتصاد، وكوسيلة لتوسيع الاستهلاك في البلاد والقروض البنكية التي تخدمه والتي وصلت الى 58 في المئة من الناتج الوطني، ما سمي «بنكنة» الاقتصاد، وما أتاح المضاربة على الريال الذي خسر نصف قيمته في السنتين الأخيرتين. وكان يكفي لوقوع ذلك ان يتباطأ النمو الصيني من جهة، وتنخفض أسعار المحروقات من جهة ثانية، وأن يقرر البنك الفيديرالي الأميركي رفع الفائدة على الدولار من جهة ثالثـــة (لتتسرب الرساميل الى الجار الشمالي الكبير). كما جرى وبخفة فائقة التخلي عن الصناعة التي تضع البرازيل في مصاف الدول الكبرى، صناعة طائرات وغواصات وسيارات وصناعة تعدينية كبرى جعلتها أكبر مصدر للحديد (و«لولا» كان اصلاً رئيس نقابة التعدين). وقد انخفضت حصة الصناعة الى 18 في المئة من الناتج الوطني بينما هي 38 في المئة في الهند و50 في المئة في الصين. وتحول الاقتصاد البرازيلي ريعياً! أما حصة الزراعة فمنخفضة اصلاً (5 في المئة من الناتج الوطني الخام، وتصبح 20 في المئة لو أضفنا الصناعات الغذائية)، على رغم أن البرازيل تنتج ربع البن العالمي وكذلك قصب السكر. نحن بعيدون عن طموحات «حركة الفلاحين المحرومين من الأرض» التي قادت انتفاضات ريو غراند الشهيرة في 1979، عندما طُرد السكان من أراضيهم لإنشاء سد كبير، وهو الطرد الذي استمر مع تغلغل شركة مونسانتو مثلاً، رائدة الاستثمارات الزراعية الخادمة لحاجات صناعات عالمية (وليس للاكتفاء الغذائي الذاتي)، والتي تعتمد البذار المعدلة جينياً على نطاق واسع، ما يتطلب شراءها كل عام من شركاتها ويلغي الدورة الزراعية كما عرفتها البشرية... الانتفاضة تلك جرت بالتحالف مع حركة «لاهوت التحرير» المسيحية، وكانت عاملاً أساسياً من عوامل إنهاء الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل بين 1964 و1980، وأحد روافد نشوء حزب الشغيلة نفسه. كما أسس الاثنان «المنتديات الاجتماعية العالمية» التي عقدت أول اجتماعاتها في 2001 في بورتو أليغري بالبرازيل، في أعقاب «معركة سياتل» ضد قمة منظمة التجارة العالمية، قبل ذلك بعامين، ومثلت الرد الكبير على إعلان الانتصار الكاسح للنيوليبرالية و»نهاية التاريخ»، وأوجدت مقابلاً لـ «المنتدى الاقتصادي العالمي» (دافوس في سويسرا). من ناحية أخرى، لئن انقلب ميشال تامر نائب الرئيسة على حليفته وأقالها، بمساعدة الاحتكارات المالية وبتغطية من امبرطورية «غلوبو» المتحكمة بـ 80 في المئة من وسائل الإعلام في البلاد والتي تملكها عائلة واحدة، فتامر يواجه مذاك عجزه عن تثبيت الحكم واستقالات وإقالات متتالية لوزرائه. فالمشكلة ليست في روسيف ولا في لولا، بل في المنظومة الاقتصادية بأسرها.