×
محافظة المنطقة الشرقية

319 ملياراً تجارة دبي غير النفطية في الربع الأول

صورة الخبر

ردود الفعل بكل أشكالها تجاه ما يثيره برنامج "سيلفي"، ذات قيمة في اكتشاف أحوال الوعي بالمواطنة، والتقاليد، وعلاقات القوة، ورؤية العالم ماذا لو اتخذنا من متلقي البرنامج التمثيلي "سيلفي" نافذة لإطلال عليه والحديث عنه؟! أستسمحكم في ذلك، لأن مشاهد حلقات البرنامج، الذي نسميه هنا "متلقيا"، وهو المصطلح المنهجي الذي يعم حالات المشاهدة والاستماع والقراءة والفرجة... إلخ، ليس منفصلا عن العمل الذي يتلقاه، وقابعا في الصمت والسلبية، بل هو في الحقيقة ناطق فاعل، مثله مثل قارئ القصة والرواية، أو قارئ المقالة، أو المستمع إلى برنامج من إحدى محطات الإذاعة. فلا ينتج العمل بوصفه خطابا له تميزه إلا وهو يحمل صورة متلقيه ضمنيا، ويميِّزه نوعيا بالاستيعاب لمحتوى وعيه وردود فعله وانشغالاته الأكثر إلحاحا والأدعى إلى تفاعله. وإذا استطعنا أن نصف هوية هذا المتلقي بأوضح ما يكون الوصف، كنا نصف تكوين العمل التمثيلي الذي يتلقاه أو أي عمل يتكون في مسافة اتصال بمتلق. وهذا مسلك لإنتاج المعرفة بالخطابات المختلفة وتحليلها قامت على الاهتمام به وتعميقه نظريات التلقي وجمالياته، وأصبحت تمتلك بشأنه رصيدا من المقولات والقناعات، وتحظى بقيمة. يمكن أن نبسِّط المسألة قليلا، فننظر في بعض الخطابات الأدبية والتمثيلية المختلفة، ونحاول أن نكتشف متلقيها عبر خصائص تكوينها: اللغة التي تؤلفها، والرؤية التي ترى بها، والموضوعات التي تعالجها. إن ديوانا شعريا -مثلاً- للشاعر فاروق جويدة، يدلل على توجهه إلى متلق بصفات محددة: أكثر انغماسا في الرومانسية، وشعورا بالغرام، ولوعة عاطفية، وسبحات خيالية. وهذه صفات أقرب إلى روح الشباب، وربما نقول أكثر استمالة للأنثى الشابة... الخ. ولهذا لن نجد رواجا لشعر جويدة خارج هذا المدار المحدّد لمتلقيه إلا قليلا، وعلى سبيل "المجاز". أما إذا نظرنا في مسلسل درامي، مثل مسلسل "أستاذ ورئيس قسم" الذي قام ببطولته نجم الكوميديا الأشهر عادل إمام، فإن متلقيه تغلب عليه صفة ذات موقف سياسي، محتشد بالتقييم تجاه التحزبات والأيديولوجيات المختلفة، في فضاء ضبابي الرؤية ومفعم بالطموح والمواقف المتقلبة. وهكذا تبدو أعمال أخرى متضمنة متلقيا شعبيا كبرامج البادية والحارات الشعبية، وأخرى لا تلذ الشباب أو لا تستهوي العامة، لأنها تنطوي في تكوينها على متلق نخبوي شديد الواقعية ومغرق في العقلانية... الخ. إن إحدى أبرز السمات التي تميِّز "سيلفي" هي ارتفاع نسبة مشاهدته، واتساع دائرة تلقيه. وهو في هذه الصفة وريث "طاش ما طاش" الذي قام على اجتماع قطبي الثنائي الشهير ناصر القصبي وعبدالله السدحان منذ عام 1412/ 1992 قبل أن يستقل ناصر بالفكرة ويمتد بخطاها. والأدلة على ارتفاع مشاهدته واتساعها ليست انطباعية، بل موضوعية يؤشر إليها موعد بث حلقاته في فترة الذروة التي تجمع أكبر عدد متوقع من المشاهدين أمام شاشات التلفزيون، بل في صدارة هذه الفترة التي تعقب تناول الإفطار وأداء الصلاة في رمضان. وهذه فترة محسوبة بدقة في طلبات الإعلان التجاري، ومدلَّل عليها باستطلاعات مسحية. وإلى ذلك فالنقاش حول حلقاته وتبادل بعض مقاطع الفيديو يشتعل في وسائل الاتصال الاجتماعي، منذ لحظة البث، ووسومه في تويتر يوميا متعددة وكثيرا ما تكون أو بعضها في صدارة الترند. وقد تأخذ ردود الفعل منحى هجوميا عليه وصل أحيانا إلى بعض خطباء الجمعة، وإلى المناقشة في برامج متعددة، والهجوم يدلل على أهمية البرنامج وتأثيره وقوة المشاهدة له. وإعادة البرنامج المتكررة تستعيد إلى الذاكرة حلقات "طاش ما طاش" التي لا تزال تعرض ويعاد عرضها وتحظى بالمشاهدة. ولا تنحصر مشاهدته على المجتمع السعودي وهو المادة المباشرة لخطاب البرنامج، بل يحظى بمشاهدة واسعة في دول الخليج واليمن والأردن، ولا تخلو بقية الأقطار العربية من مهتمين به. وقد نقول إن نسبة "سيلفي" و"طاش ما طاش" إلى صنف الكوميديا، هي وحدها علة الإقبال الواسع عليه، وهذا صحيح، فالكوميديا ونجومها أكثر المواد رواجا وإقبالا لدى عموم المشاهدين. ولكن كل كوميديا تتعرف بخصائصها الفارقة في موضوعاتها ونظام تأليفها وبناء شخصياتها، فليس هناك كوميديا (ولا غيرها) في المطلق أي في فراغ من أية خلفية. وهنا تحديدا يمكن البصر بالمتلقي الذي ينغرس فيها وتنشأ إستراتيجيتها النصية على التشارك معه واستدراجه وإثارة انفعالاته، وبناء مجدها على الرهان عليه. فلا يغدو للحلقة من حلقات البرنامج صفة الخطاب أو صفة الرسالة الفنية إلا وهي متضمنة صورة متلقيها وهويته. وهي حلقات تتوالى فيزداد ارتباطها بهذا المتلقي تأكيدا وتشاركا للإستراتيجية النصية، ومن ثم تبلور نوع من التعاقد على الدهشة والمتعة والصدمة والاكتشاف معه. وكأن المتلقي يرى شيئا شديد الصلة به إن لم يكن ذاته، حتى ليغضب أو يرضى أو يضحك أو يألم... ليست حلقات "سيلفي" ولا "طاش ما طاش" من فراغ، بل تقوم على تفاعل خاص مع روايات أحداث ومشكلات وقضايا معروفة لدى عموم المجتمع السعودي أو لدى قطاع عريض منه، عبر وسائط النشر المختلفة وبالمعاناة الشخصية والاجتماعية وبإثارتها الجدل والصراع على مستويات مختلفة... الخ. هذا التفاعل الذي يصطنعه البرنامج لوجوده يتشكل باستيعاب تلك المادة وتحويلها بطريقة تجسد انفعالات نقدية ساخرة تجاهها تفضح ما تراه خللاً وتهتك التلفيق وتكشف عن السخافة وتجسم المعاناة والتخلف عن الزمن... الخ ومن ثم تجعلها رسالة قابلة للتلقي، ومستدعية للمتلقي الذي يتفاعل معها (حتى بالغضب منها) من منطلق ترصُّده تجاهها بمعرفة أو بموقف أو انفعال مسبق، يجد نفسه بسببه جزءا من تكوينها، ومن إثارتها. ولذلك فإن المتلقي الخاص لسيلفي وطاش ما طاش، بالصفة المطروحة أعلاه، هو المواطن، أعني من تتحدَّد خصوصيته من حيث هو علاقة مع آخرين في إطار الوطن، ومن حيث هو مع غيره من المواطنين علاقة مع مؤسسات الدولة والمجتمع. وهو المواطن السعودي في المقام الأول، ولكنه المواطن الخليجي والعربي بدرجة مقاربة وأحيانا مساوية، لأن مشكلات المجتمعات العربية متقاربة، أو متشابهة، إن لم نقل إنها واحدة في أحيان كثيرة. وهذا يعني أن ردود الفعل بكل أشكالها تجاه ما يثيره البرنامج، ذات قيمة في اكتشاف أحوال الوعي بالمواطنة، والتقاليد، وعلاقات القوة، ورؤية العالم، والموقف من المستقبل.