الاعتكاف من السنن المؤكدة التي واظب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اختفت هذه السنة من حياة المسلمين إلا من رحم ربي شأنها في ذلك شأن كثير من السنن التي أماتها المسلمون أو كادوا. ولذلك أسباب، منها: 1- ضعف الجانب الإيماني في كثير من النفوس. 2- الإقبال المتزايد على ملذات الحياة الدنيا وشهواتها، والذي أدى إلى عدم القدرة على الابتعاد عنها ولو لفترة قليلة. 3- هوان الجنة في نفوس كثير من الناس، وميلهم إلى الراحة والدعة، فلا يريدون تحمل مشقة الاعتكاف ولو كان ذلك في سبيل رضا الله سبحانه وتعالى. ومن علم عظم قدر الجنة ونعيمها بذل في الحصول عليها النفس والنفيس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) رواه الترمذي وصححه الألباني (2450). 4- اقتصار محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من النفوس على الجانب اللفظي دون العملي والذي يتمثل في تطبيق جوانب السنة المحمدية المتعددة ومنها الاعتكاف، قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) الأحزاب/21. قال ابن كثير رحمه الله (3/756): هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله. وقد تعجب بعض السلف من ترك الناس للاعتكاف مع مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه. قال ابن شهاب الزهري: عجبا للمسلمين، تركوا الاعتكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله. ثانيًا: الاعتكاف الذي واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، وهذه الأيام المعدودة تعتبر - بحق - بمثابة دورة تربوية مكثفة لها نتائجها الإيجابية الفورية في حياة الإنسان في أيام وليالي الاعتكاف، ولها أثرها الإيجابي على حياة الإنسان فيما يستقبله من أيام خلال حياته التي يحياها إلى رمضان آخر. فما أحوجنا معاشر المسلمين إلى إحياء هذه السنة وإقامتها على الوجه الصحيح الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فيا فوز المتمسكين بالسنة بعد غفلة الناس وفساد الأمة. ثالثًا: كان الهدف الأساسي من اعتكافه صلى الله عليه وسلم التماس ليلة القدر. روى مسلم (1167) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية (أي: خيمة صغيرة) على سدتها (أي: بابها) حصير. قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه. وفي هذا الحديث من الفوائد: 1- أن الهدف الأساسي من اعتكافه صلى الله عليه وسلم التماس ليلة القدر، والاستعداد لقيامها وإحيائها بالعبادة، وذلك لعظم فضل هذه الليلة، وقد قال الله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) القدر/3. 2- اجتهاده صلى الله عليه وسلم في تحريها قبل معرفته بوقتها، فبدأ بالعشر الأول ثم الأوسط، ثم استمر معتكفا حتى آخر الشهر حينما أعلم أنها في العشر الأواخر، وهي القمة في الاجتهاد طلبا لليلة القدر. 3- متابعة الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إنهم بدأوا الاعتكاف واستمروا معه حتى نهاية الشهر، وذلك لشدة تأسيهم به صلى الله عليه وسلم. 4- شفقته صلى الله عليه وسلم على أصحابه ورحمته بهم، فلعلمه بمشقة الاعتكاف خيرهم في الاستمرار معه أو الخروج فقال: (فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف). وللاعتكاف مقاصد أخرى، منها: 1- الانقطاع عن الناس ما أمكن، حتى يتم أنسه بالله عز وجل. 2- إصلاح القلب بالإقبال على الله تبارك وتعالى بكليته. 3- الانقطاع التام للعبادة الصرفة من صلاة ودعاء وذكر وقراءة قرآن. 4- حفظ الصيام من كل ما يؤثر عليه من حظوظ النفس والشهوات. 5- التقلل من المباح من الأمور الدنيوية والزهد في كثير منها مع القدرة عليها.