تبارى الإمامان الجليلان ابن رجب الحنبلي وابن كثير الدمشقي في تلكم الأسرار التي أودعها الله في ساعات اليوم والليلة، فما من ساعات من هذه الساعات إلا وتتميز بخاصية لا تشاركها فيها غيرها من الأوقات إذا ما تأملها العبد سرعان ما فاق إلى رشده وثاب إلى صوابه وأدرك سر العبادة في هذه المسألة، فاستهلا الحديث عن ساعة السحر التي خصها الله بالذكر في كتابة الكريم، فقال: والمستغفرين بالأسحار، وقال عن المحسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون، فكيف بهؤلاء المحسنين الذين قضوا ليلهم كله أو جله عبادة وسرعان ما يلفظون عن أنفسهم دفء النوم ويعودون من جديد إلى محراب العبادة في ساعة السحر فتلتهج ألسنتهم بالاستغفار.. لماذا؟ حديث النفس قال ابن رجب: إن هؤلاء المحسنين خافوا أن تحدثهم أنفسهم بأنهم خير من غيرهم فيسري العجب في أنفسهم، ولا شك أن العجب والعياذ بالله محبط للعمل ومدعاة للرياء. فأعجب الإمام ابن كثير بهذه الإشارة الخفية الدقيقة من ابن رجب وأقره عليها، ثم طلب ابن رجب من شيخه عماد الدين بن كثير أن يدلي بدلوه في هذا المعنى، فأجاب: إن الإشارة إلى السحر وتخصيصه بالاستغفار تفسرها آيات قرآنية أخرى في مواطن مختلفة من كتاب الله!!! كيف أيها الإمام وما مظانها؟ فقال: في سورة يوسف عليه السلام. سورة يس وننتقل إلى سورة يس إذ يقول الله تعالى فيها: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون، قال ابن كثير: روينا بسند صحيح أن الشمس تسجد تحت العرش في هذه الساعة تستأذن ربها في الشروق من مشرقها وقد أوشكت أن تستأذن فلا يؤذن لها. ومن هنا فإن هؤلاء المحسنين يستحضرون حالة الشمس وهي ذليلة خاشعة ولا يأمنون مكر الله سبحانه وتعالى، كما أنهم لا يقنطون من رحمته فربما لم يؤذن للشمس بالشروق من مشرقها فتغلق أبواب التوبة والاستغفار، لذلك تلهج ألسنتهم في هذه الساعة بالاستغفار. ما أجمله من استنباط قرآني يفسر فيها بن كثير القرآن وما أحيلاه من استدلال. لقاء المحبين وبينما هما يتجاذبان أطراف الحديث العذب الزلال إذ تراءى لهما من بعيد شخص كالهلال وكلما اقتربا نحوه ازداد نوره اكتمالاً فإذا به الإمام الجليل شمس الدين بن قيم الجوزية فقاما إليه محيين وجلسا يعرضان عليه ما هداهما الله إليه من روائع الاستنباط. وأبدى بن القيم إعجابه بصاحبيه لكنهما طلبا منه أن يدلي بدلوه في هذا الباب فأجاب وأجاد قائلاً: إن الله سبحانه وتعالى من سنته أن يجعل الاستغفار أعقاب الأمور كلها وخاصة الطاعات، فإن المسلم يستغفر الله أعقاب صلاته وزكاته ومجلسه وسفره وحله وترحاله، ولما قضى هؤلاء المحسنون ليلهم ذكراً وقياماً وتلاوة وتدبراً للقرآن ختموا طاعتهم بالاستغفار، ولكن أيها الإمام ما علاقة السحر بالاستغفار؟ فأجاب بن القيم قائلاً: إن الاستغفار أمان لأن الله سبحانه وتعالى أودع في ساعات اليوم والليلة أسراراً وخص ساعة السحر بالنجاة والأمان فإذا ما وقع أمر الله بوقوع العذاب على الظالمين فأخذهم أخذة رابية سبق ذلك بنجاة تلك الفئة المؤمنة التي انقادت للأنبياء واستجابوا لله ولرسوله قبل وقوع العذاب. يوسف هل لسورة يوسف علاقة بالسَّحَر؟ نعم، فإن أخوة يوسف عندما جاءوا أباهم يعتذرون إليه وهم يطلبون منه أن يستغفر لهم ما فعلوه بيوسف ماذا قال سيدنا يعقوب لبنيه؟ قال لهم: سوف استغفر لكم ربي، إنه أجل الاستغفار لوقت السحر إشارة منه أن يوجه اهتمام أبنائه إلى هذه الساعة العظيمة مقابل ذنبهم العظيم. * أستاذ جامعي وإعلامي