يحكى أن طفلا انشغل ببناء بيت على رمال الشاطئ بحماس كبير وتركيز بالغ وإتقان عجيب, وبعد أن أتم بنيان بيته وقف ينظر إليه بزهو وفخر وهو ما شجعه لاستدعاء والديه للوقوف على هذا العمل العبقري! وقبل أن يصل الوالدان، إذ بموجة هائلة تنال من هذا الصرح العظيم وتذره قاعا صفصفا! فكيف تصرف الصغير؟ ما زاد على أن ضحك، ثم طفق يعيد المحاولة مجددًّا في استمتاع.. ما أعقله! ثمة ظاهرة تتفشى... وفكر يتغلغل! هو إدمان من نوع آخر! لكنه غاية في الخطورة! إنه الإدمان على الشكاية! والعقلية الشاكية لا تقتصر على شريحة! ولا تختص بفئة! و ليست متعلقة بعمر! بل تجد(الشكاية) عند الفقير وعند الأمير! والصغير يشاطر فيها الكبير! والذكر والأنثى كلاهما يستعين بها! فمنهم من يشتكي حالا ضيقا.. وآخر يشتكي شريكا نكدا! وذاك يشتكي عملا صعبا وآخر يشتكي معلما سليطا! وذاك يشتكي صديقا غادرا..وآخر يشتكي حظا عاثرا! وذاك يشتكي ماضيا أسودا, وآخر يشتكي حاضرا موحشا، وثالث يشتكي مستقبلا مخيفا! وعندما تسمع أصحاب الشكاية ربما ظننت أن (همّ) واحدهم قد جاوز( همّ )متمم بعد فقد أخيه مالك! وارتفع حزنه عن (حزن) المهلهل بعد مقتل كليب! وفاق ضيقه (ضيق) ابن عباد في أسره! وكأنما أصبح غرض الزمان الوحيد ..لا تخطئه سهامه ...ولا تغيب عنه آلامه! مؤسف والله أن ينصرف يومنا إلى شطرين: شطر للنواح والبكاء والشكاية على قضايا ولت ولسان الحال: آه من قيدك أدمى معصمي! وشطر للقلق والترقب الكئيب لأيام آتية علمها عند الله، ولسان الحال: ياخوف فؤادي من غدٍ! لقد أضحت ظاهرة (اللارضا) ظاهرة شائعة! ولا يكاد يسلم منها بشرا! ويكفي أن يطمئن لك أحدهم فيبدأ بكب حمولته من الشكوى عليك! والتعبير عن ظلم الحياة له, وبث غبنه من الأيام التي لم تعطيه ما يستحق ومن البشر الذين لم يعاملونه كما يجب! وكذلك نفعل نحن إن وجدنا من نطمئن له ويهتف له قلبنا ويرخي سمعه لحديثنا فنشرع في إسماعه صوت شكوانا المزعج! للحياة طبع لن تتنازل عنه؛ فطبع حياتنا النقص وحالها وحال من فيها عدم الكمال، ولن يستقيم حال لأحد ولن تكتمل دنيا لشخص، فهي بين قبض وبسط ومد وجزر, ولابد من كؤوس وجع سيشربها الكل فقد أخذت الدنيا عهدا على نفسها كما قال المنفلوطي إن تقف بين النفوس وآمالها !وما أروع ما قاله السياسي والأديب عطا عبدالوهاب في كتابه الجميل (سلالة الطين): الحياة فرح ملوث, ولو كانت فرحا خالصا لصارت تافهة كالعبث! فقطرة التلويث في الحياة هي من يبرز نقاءها! ولكن الأمر العصيب حين تكبر القطرة في الكأس ويعم التلوث! وتبقى الحياة حياة ويظل من واجبنا الارتشاف ولو من جفاف ملوث! والجفاف الملوث أحسب أن من يأتي به هي الشكاية الدائمة! فإدمان الشكاية يضيع الأوقات ويهدر الطاقات! ويعكر صفو الحياة، ويوتر العلاقات! ومهما بلغ حب من حولنا لنا ومهما عظم تقديرهم لذواتنا ومهما كان قوة تحملهم فلن يصمدوا أمام شكوانا الدائمة فلديهم من الدراما ما يكفيهم في حياتهم ! وفي المقابل لا يعقل أن تقضي ما تبقى من أعمارنا باجترار الالم والنواح على مالم ندركه أو البكاء على ما فاتنا حتى نصبحَ هزيلين كظلٍّ سارٍ! وتلك في جملتها (ملوثات) تجعل من صاحبا ميتا وإن كان يتنفس! يشكو (علة) أفضل وصف لصاحبها: أنه شخص يتجرع الحياة ولا يعيشها! الشكوى حل سهل التنفيذ يسير الجهد ولكن ثمرته ألم ومآله خسارة! وماذا ضر هولاء لو أنهم تقبلوا ما يجب عليهم تقبله!؟ وما هو تحت أيديهم ومايملكون معه حيلة –وما أكثرها- تحركوا ما بوسعهم أن يتحركوا لتحسينه! والشكوى ربما سببها مسار فكري خاطي وهو الحدية فصاحبها لا يرضى ببشر ولا بأمر إلا مكتملا! والله قد كتب النقص على كل شيء لذا فهو في حالة مستمرة من الغليان! وربما كان عدم قدرة (الشاكي) على صنع سلام بينه وبين محيطه! فكانت الشكوى والتذمر وسيلته لتصفية حساباته مع محيطه! والبعض أدمن الشكاية لمواقف (مر) بها لاتزال مرارتها عالقة في فكره وأوجاعها مستوطنة روحه! وفي المقابل لا تخلو الحياة من بشر نتعلم منهم فن إدارة المواقف ففي قصة رمزية حُكي أن صغيرا كان يسكن كوخا بلا سقف مع والده وكان الحال ضيقا واليد قصيرة والفقر قد بلغ منتهاه وحدث أن هطل مطر شديد عليهم في إحدى الليالي فما كان منهما إلا احتموا بباب الكوخ، وبينما هما تحت الباب الخشبي والمطر يضرب بقوة عليه.. قال الصغير لأمه.. ما أسعدنا يا أماه وأعظم نعمة الله علينا بأن وهبنا هذا الباب! وكم من مريض قرر الأطباء أن مدة بقائه في الحياة محدودة إلا أنه وبإرادة الله أولا ثم لنفسه الراضية وشدة تفاؤله استطاع الجسم مقاومة المرض وأن ينتصر عليه! ثق أنك بالرضا ستعانق السعادة وستصل ل قمم النجاح وستهنأ بالعيش الكريم وستنعم بصحة جيدة وعلاقات متينة، ما رأيك أن تعيش يوما دون شكوى ..ستجد للحياة رونقا جميلا! شعاع: أغالب الليل الحزين الطويل أغالب الداء المقيم الوبيل أغالب الآلام مهما طغت بحسبي الله ونعم الوكيل فحسبي الله قبيل الشروق وحسبي الله بعيد الأصيل وحسبي الله إذا رضّني بصدره المشؤوم همّي الثقيل وحسبي الله إذا أسبلت دموعها عين الفقير العليل يا رب أنت المرتجى سيّدي أنر لخطوتي سواء السبيل - غازي القصيبي مقالات أخرى للكاتب خصوم بنكهة أخرى! رزق! هي لحظات ..فاستمتع بها ! التفاؤل.. خيارك الوحيد! تصالح معها لتسعد!