عبدالعزيز محمد الروضان بادئ ذي بدء أيتها السيدات وأيها السادة يمكن لي أن أجعل عنوان هذا المقال (الدراية قبل الرواية)، ولكني ارتأيت العنوان أعلاه لعدة أسباب جوهرية يتصدرها أنه أكثر وضوحاً من غيره أيها القارئ الكريم.. إنا سأكتب في موضوع لجد عسير، كما أنه لجد مهم بحيث لا أخالني قادراً على إدراكه على سبيل التفصيل والإجمال، كما لا أحسبني أقف على مضامينه، هذا فضلًا عن كوني سأقع في الخطأ من حين لآخر.. فهذا الموضوع يعد من المحاذير الدينية؛ لذا فإن طرق بابه عسير جداً، ربما أني خالي الوفاض من الأدوات والوسائل التي تسعفني في ذلك.. لقد درج علماء الحديث على أنهم يولون المتن والرواية أهمية تفوق الدراية والسند في تقصي وتصحيح أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.. فأثابهم الله على جهودهم.. ولكن هذا النهج يكون غير موفق أحياناً فإن دراسة المتن يجب أن تسبق دراسة السند؛ لأن المتن له مرجعية ومفاتيح، وهي مقاصد الله وغاياته من التشريع والمتمثلة في نص قطعي الثبوت وهو النص القرآني، فكم من حديث صحيح المتن قد تناغم مع فحوى الشريعة ومقاصدها طوح به علماء الحديث بعيداً لعلل وقوادح في السند! وكم من حديث غير صحيح المتن نراه يُصادم مفهوم الشرع ونصوصه قطعية الثبوت صححه علماء الحديث لسلامة سنده! وتناقلته الأمة بالقبول التام لصحة سنده كما أسلفت.. وتكمن خطورة هذا المسلك في تصحيح الأحاديث التي تُؤَسس وتبنى عليها الأحكام الشرعية.. إنه يجب أن يُعطى المتن أهمية تفوق تقصي صحة السند.. إن علماء الجرح والتعديل وعلم الرجال قد أولوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عناية فائقة ولكن، يا ليت تلك العناية تنصب على المتن أكثر من توجهها إلى السند.. إن أعداء الدين الإسلامي بالأمس واليوم وفي الغد لم ينفذوا إلى نقد الدين الإسلامي إلا عبر أحاديث غير صحيحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب.. ولحكم المساحة لن أستطيع أن أورد كثيراً من الأمثلة على ما سبق ذكره.. وكل ما أريد قوله هو إن الدين الإسلامي دُونت فيه بعض الأحاديث التي تُنسب إلى الرسول، والرسول بريء منها.. إن مثل هذه الأحاديث أصبحت مثلباً تُرمى به الشريعة الإسلامية بالقدح والتنقص! إن الأمة الإسلامية تعصف بها أزمات فكرية وفقهية منطلقها وأرضيتها مثل تلك الأحاديث غير الصحيحة! إن الأمة الإسلامية تتفشى فيها ظواهر عجيبة، وإذا ذهبت تتقصى منشأها وجدت أن منشأها تلك الأحاديث غير الصحيحة!! فيذهب أصحاب تلك الأمور العجيبة عندما تناقشهم فيستندون إلى تلك الأحاديث غير الصحيحة. إذاً ما من أزمة فكرية أطلت علينا برأسها اليوم وفي الأمس بل وفي الغد إلا وتجد أصحابها يعتمدون على تلك الأحاديث غير الصحيحة.. ولكن إن علماء الأمة اليوم قد أدركوا ذلك الخطر، فذهبوا يصححون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فلهم جهود تشكر، وهذا التوجه ما نراه ظاهراً في علماء اليوم لا سيما علماء بلادي (حفظهم الله) وهذه المبادرة يُشكرون عليها.. فبارك الله في جهودهم وجعلها الله في ميزان حسناتهم، ولكننا نتطلع إلى مزيد في هذا الجانب، فتُعرض السنة على المحك والنصوص قطعية الثبوت وتوضع على مقصد الشريعة والمتمثلة في كتاب الله تعالى الذي قال الله عنه في وحيه الطاهر: (وإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، إذاً فالمرجعية الوحيدة لتصحيح حديث الرسول الكريم هي عرضها على كتاب الله؛ فهو المخرج الوحيد من هذا المأزق الذي تلج به أحياناً الأمة الإسلامية.. إن الله تعالى قد دلنا على الفيصل الذي نحتكم عنده وهو كتاب الله.. أليس الله تعالى يقول (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، إن مثل هذا النص القرآني وغيره يؤكد لنا بتأكيد لا يرقى إليه شك أن الأحكام كلها في كتاب الله أو على الأقل جذرها في كتاب الله.. إن كتاب الله يجب أن ترتمي الأمة في أحضانه عند الاختلاف، وهو المعول الوحيد عليه عند اختلاف الأمة، وما أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عبارة عن مذكرات تفسيرية لكتاب الله. إن جميع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي إلا أحكام أراه الله إياها في كتابه العزيز، واقرأوا معي إن شئتم قوله تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً)، وهنا أرجو ألا يُساء فهم كلامي ويُصرف عما أنا بصدده، وهو الاعتماد على كتاب الله وتقليل الاعتماد على السنة، إن مقصدي ليس هذا لا من قريب ولا من بعيد، وإنما مقصدي هو أن نعول على المتون كثيراً لا على الأسانيد في تصحيح هذا الحديث أو عدمه، وإني أرى أن دراسة السند تفوق على دراسة المتن كالذي يضع العربة أمام الحصان؛ لأني عندما أقول يجب التعويل على المتن أكثر من التعويل على السند؛ لأن للمتن مرجعية ومعاضد، وهو كتاب الله الكريم، وهذا ما ليس للسند.. فإن تزكية البشر تصيب وتخطئ.