"لا تنسَ.. أحضر قلبك معك!" ... كلمات كتبها الأستاذ أسعد على صفحة افتراضية مغلقة للمخيم أنشأها لتذيب جليد التعارف قبل الوصول وحتى لا نضيع وقتاً طويلاً على أرض الواقع، فلا مجال هنا لإضاعة الوقت، هذا درسنا لأول حتى قبل أن نبدأ، تبادلنا الصور وتعريفاً بسيطاً عن أنفسنا، على الصفحة قيل الكثير من الكلام، ولكن ظلت تلك الجملة تراودني كل ليلة، هل قلبي حاضر حقاً؟! صباح اليوم الثاني، بعد محاولات مضنية قاومت برودة الجو وارتديت ملابسي ونزلت درجات السلم الطويل مع رفيقة الغرفة لنجد مدربنا في استقبالنا عند نهايته ليسجل أول مخالفة، "تأخير عشر دقائق" هكذا قالها بمزيج من المزح والجد، جميل أستاذنا، كيف له أن يحضر مبكراً وينتظرناً واحداً واحداً قبل أن يتناول إفطاره!؟ ولِمَ لا؟! وهو الذي يعطينا في كل تصرف درساً في الحياة والعمل. في مكان التدريب على ضفة النهر جلسنا نتبادل الحوار حول ما تبقى من أسس الوثائقي، وكان الموضوع الأول هو الكتابة للصورة، وكعادته في اختبارنا على الدوام وبطريقته الخاصة طلب منا حكاية من كل واحد عن وقته في المخيم. مربكة هي لعبته ولكنها ممتعة، فهو لا يعرف منها قدراتنا بل الكثير من الأسرار... هكذا أشعر. تناولت قصاصة ورق وقلماً وبدأت أشحن ذهني للبحث عن خيط أسير وراءه، أعطانا وقتاً للتفكير، انتهى سريعاً ولم أنهِ وِردِي بعد، تأخر دوري فحمدت الله، راجعت نصائحه عن الحكاية الممتعة، "بداية قوية ووسط مثير ونهاية جذابة"...حان موعدي، ابتسمت وتركت أوراقي ووقفت وحيدة، سردت مشاعري مع تلك الحافلة التي انزلقت على المنحدر المؤدي لمكان المخيم وكيف خفق قلبي معها خوفاً وفرحاً في آن واحد، خوفاً من لحظة الهبوط وفرحاً بالوصول، حكيت عن حيرتي ومشاعري المتضاربة، تخيلت نفسي أحكي لصديقتي المقربة عبر الهاتف عن هذين اليومين، ابتسم الأستاذ عندما انتهيت وتعلق الرفاق بما أقول، يبدو أنني نجحت.! قلقة ومتحفزة طلبت نشوى الجلوس بجواري، بدلنا الأماكن مع زميلة أخرى، بدت كمن سيدخل امتحان فيزياء من دون تحضير، أمسكت أوراقها التي تخضبت بحبر أزرق وسألتني ماذا أفعل؟ أزحتُ أوراقها جانباً وقلت "احكي وكأنك تتحدثين لوالدتك"، اطمأنت قليلاً وحان دورها، تخلصت سريعاً من توترها وحكت بطلاقة وهدوء فحصدت أعلى عاصفة تصفيق.. الأمر سهل جدا "كُن بسيطاً تصل". توالت الأدوار وكانت المفاجأة أن أغلبنا التقط خيط البداية وتخطى مرحلة القلق وترك العنان لقلبه ليكون بطلاً لحكاية تتشابه فيها الأحداث وتختلف الرواية، شاهدت لحظات الانتصار مرات على وجه الأستاذ وكأنه يردد: "بدأت تطلع قماش" كان مجاملاً لدرجة تجعل من الصعوبة معرفة رأيه ولكنه رغم ذلك لا يستطيع أن يخفي إحباطه حين يخفق أحدنا، فهو يطمح إلى أن يخرج من هذا المخيم سبعة عشر حكاء بدرجة ممتاز. شارفت الحكايات على الانتهاء، اعتلى عقبة مسرحنا، عندما أرى ذلك الفتى أشاهد روحاً مختلفة فكل تقسيمة في وجهه تقول إنه ليس مجرد شاب عادي. "عقبة" سوري الجنسية لم يتم عقده الثاني بعد، ترك عائلته التي خرجت بعد اندلاع الثورة بسنوات لتستقر في المملكة العربية السعودية ليعيش ويلات الحرب والفقد يومياً داخل سوريا، لديه موهبة مميزة في التصوير رغم أنه لا يمتلك كاميرا تسعفه لترجمة فنه لحظياً، قال في تعريفه لنفسه في اليوم الأول إنه لا يجيد البوح، وياللعجب، حكى اليوم بطلاقة وتناسق يناسبان قلبه الغض، تحدث عن رفاقه الجدد من مصر والمغرب وكيف يتعامل مع مصطلحاتهم اللغوية الجديدة وتحدث عن صديقيه عتبة وعبدالرحمن اللذين أتى برفقتهما من سوريا، كان مبتسماً واثق النظرة وهو الذي يحمل هموماً لا تليق بفتى في مثل عمره. أنهى عقبة امتحانه ولكنه بدأ في عقلي أسئلة عديدة عن قلبه وما لاقاه من أوجاع، خاصة خياره البقاء وسط الحرب رافضاً أحلام والديه في عالم وردي وجامعة مرموقة في وطن آمن. والسؤال الذي شغلني هو كيف استطاع وسط كل هذا الألم أن يحافظ على روحه البريئة؟! فرغم حزن عينيه وانشغال عقله وهلعه الأكبر من أن يموت خارج وطنه الذي لم يعد حلماً للكثيرين، كان قلبه حياً وضحكته حقيقية ومشاكسته لها طعم خاص، علمني عقبة أشياء عديدة أولها أن الألم يجب ألا يُميت القلب أما البقية فسأحكيها له يوماً. "إن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس فاجعل قلبك لا عقلك دليلك الرئيسي، واجه.. تحدّ.. وتغلب في نهاية المطاف على النفس بقلبك" إحدى قواعد شمس التبريزي الرفيق الروحي لجلال الدين الرومي، التي سطرتها إليف شافاق في روايتها الشهيرة "قواعد العشق الأربعون" أحب هذه القاعدة وأعود إليها كلما التبس علي الأمر، أحتار بين قلبي وعقلي، لا يفلح اختياري دوماً؛ لأنني أميل للعقل، هذه المرة انتصر قلبي فعقلي كان ينازعني ألا جدوى من القدوم هنا فأنا أعمل في وظيفة جيدة ولدي أطفال ومسؤوليات ولا خطط واضحة لدي للعمل "حكاواتية" أو فلنقل لا فرصة جيدة، ولكن قلبي اختار القدوم فتبعته، وها هو يثب فرحاً بالانتصار. لم ينتهِ اليوم بعد بل بالكاد انتصف، أشعر أنني جزء من رواية ستُكتبُ قريباً، تمنيت لو دامت تلك الحالة من الصفاء والفرحة طويلاً، لكنها ما لبثت أن انتهت وتبدلت الأحوال! عقبة غرفة الطعام مع نشوى رفيقة الغرفة أستاذ أسعد يختار إحدانا "يُتبع" ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.