قررتُ اليوم أن أعيش المغامرة. بأن أُعيد من جديد قراءة رواية (رحلات جليفر) للكاتب الإيرلندي الرائع جونثان سويفت (1645 1767) والتي لا تزال بعضُ أحداثها الخيالية عالقة في ذهني حتى اليوم. ففي المرحلة المتوسطة من الدراسة كانت لدينا معلمة لغة إنجليزية اجتهدت في ترقية عقولنا وتثقيفنا، لا بالحشو والتلقين والحفظ، كما يحدث في مدارسنا اليوم، بل بالفهم والتوعية وهذا هو جوهر التعليم الحقيقي، وغاية النظام التعليمي والتربوي. كانت هذه المعلمة تحبننا في المنهاج من خلال اهتمامها بتدريسنا اللغة الإنجليزية بواسطة الروايات الممتعة، ومنها رواية (رحلات جليفر). كنتُ أعلم أن كاتبها، جونثان سويفت، المولود في دبلن بإيرلندا، كان مريضاً، مصاباً بالتهاب الأذن والعين، حتى أن عينه تكوَّرت، وخرجت من محجرها كبيضة، وكان هو على مشارف الجنون، وكانت أسرته تراقبه باستمرار حتى لا يؤذي نفسه، فيقوم بقلع العين بإصبعيه! جونثان سويفت، المبدع المجنون، كتب (رحلات جليفر)، وجليفر بطل هذه الرواية، طبيبٌ عاش حياتين متناقضتين، ألقته الأمواج بعد أن تحطمت سفينته مرة في بلاد الأقزام، حيث يصل متوسط طول الفرد خمسة عشر سنتمتراً، ومرة أخرى ألقته الأمواج في بلاد العمالقة فجرب أن يكون عملاقاً، وقزماً في وقتٍ واحد! عثرتُ في الرواية بعد قراءتها الجديدة هذه المرة على نصٍ ساخرٍ رائع، لم أكن قد أوليته أهميةً في مرحلة دراستي الأولى، ولم تشر إليه مدرستنا، لأننا لم نكن وقتها نعرف ماذا تعني كلمات مثل سني أو شيعي أو ، كنا نعرف فقط أننا مسلمون ولم يكن قد أصابنا (مرض الطوائف والأحزاب) والنص وصفة طبية ساخرة، لشفاء رجال الأحزاب السياسيين من (داء الحزبية) أو مرض التحزُّب! فهو يقول: «لشفاء رجال الأحزاب من مرض الحزبية، علينا جمعَ مائةٍ من كل حزب، ويُصفُّون في أزواج متقابلين، وتُقاس رؤوسهم، ثم يُوضعُ المتشابهون في حجم الرؤوس ، كلُّ زوجٍ على حدة. يُستعان بجراح ماهر، يقوم بشق رأس كل زوج من الحزبين المتناقضين، بنشر الجمجمة، ثم يجري تبادل أنصاف أقسام المخ بين الأحزاب، فيوضع نصفُ كلِّ مخٍ على رأس المنافس الحزبي، وهذا يتطلب دقة فائقة من الجرَّاح، غير أن الشفاءَ مضمونٌ من داء الحزبية، والنتيجة، قاسم مشترك من التفاهم المعقول بين الطرفين!» ويضيف في قولٍ ساخرٍ آخر: «إن رجال الأحزاب يعتقدون بأنهم أُرسلوا إلى البشرية لمراقبة العالم، والتحكم فيه». بعد مرور أربعة قرون على صدور رواية جونثان سويفت، فإن جملته التي لم تُثر اهتمامي في الصِّغر تلخص معظم أفكار الطوائف في عالمنا اليوم: «فكل طائفة تظن، أنها أرسلت للبشرية هادية مبشرة وأنها الوحيدة التي خلقت لها الجنة، لذا فإنها تتصرف وكأنها تملك زمام الكون». فهل كان تشخيص جونثان سويفت للتخلص من مرض الحزبية يصلح في يومنا هذا للتخلص من أمراض الطائفية والتعصب؟! أترك لكم الجواب.