خرج.. مرتعبا خائفا.. لكن القلب معلق بالله.. خاف من التيه في طريق سفره، مباشرة انطلق القلب مناديا القريب المجيب: دلني على سواء السبيل في هدف حياته وغاية طريقه.. فانطلق يكلؤه الله بعنايته وحفظه.. حتى مر على قوم يستقون من الآبار لمواشيهم وشربهم.. ولعادة الناس وفطرتهم لا تقترب النساء لمجامع الرجال.. فنظر فإذا امرأتان تنتظران خلو البئر للسقيا.. وكان قويا نشيطا فسقى لهما وقضى حاجتهما مع أنه لايعرفهما؛ رغبة بالأجر، وطبع جميل يظهر بالإحسان والبذل لم يطلب أجرا ولا معرفة أو تقربا مباشرة. وكما توجه في أول الطريق للهداية توجه مرة أخرى إلى الله بطلب المثوبة والأجر مظهرا فاقته وحاجته (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) إنه أنموذج موسى عليه السلام فانطلقت الفتاتان تذكران لوالدهما صفتين رائعتين فيه (القوة والأمانة) فالقوة ظهرت في السقيا، والأمانة ظهرت والله أعلم بمساعدتهما من دون تزلف ثم بعد قضاء حاجتهما لم يطلب أجرا وذهب بعيدا في ظل الشجرة داعيا ربه وراجيا.. فتنزل المدد الإلهي على هذا العبد الصالح الذي عرف كيف يدلف لربه من بابي الدعاء والإحسان والتواضع والافتقار.. فسخر الله أبا الفتاتين فوهبه الأمان والسكن والعمل، وعرض عليه الزواج.. فوافق موسى عليه السلام بالزواج ومهر ذلك العمل مقابل أجلين إما ٨ سنوات أو ١٠ سنوات فوفى العشر كاملة متوكلا على ربه مستعينا به.. إن رحلة موسى من مصر بلاد فرعون إلى الشام رحلة خوف ومطاردة.. لكنه كسب الطمأنينة عبر عدد من الأعمال الجميلة...الدعاء والالتجاء إلى الله بالنجاة.. (قال رب نجني من القوم الظالمين)، ثم الدعاء بالهداية للطريق الحق معنويا وماديا (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) وقدم الأسباب من السعي والسير.. ولم يقف الإحسان للخلق ولم يطلب عليه أجرا وهو العمل الثالث وهو سبيل عظيم لنيل مرضاة الله وتفريج الهموم (فسقى لهما) وأتى العمل الرابع الميمون، قمة إظهار الافتقار لفضل الله ونعمته ومدده ونصره (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير). هذه المنازل العظيمة هي التي هيأت موسى عليه السلام لقيادة بني إسرائيل ودعوتهم إلى الحق مقابل الباطل، والعدل مقابل الظلم، والعطاء مقابل الأنانية واليقين مقابل الشك، والرحمة مقابل القسوة فامتلأ قلبه بالثقة بوعد الله حتى قال قولته العظيمة الشهيرة لما لحق به فرعون وقومه والبحر أمامه فارتج على من معه فقالوا (إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين). هذه المعاني العظيمة دعوة لكل مكروب وخائف ومحتاج ومهموم..اقتد بسيرة موسى عليه السلام في مسيره وخروجه ثم كيف تبدلت الحال من الخوف إلى الأمن، ومن التشرد إلى التوطن والسكن ثم الزواج ثم النبوة والكمال والجلال، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.