لم يسمع القارئ العربي، على الأرجح، بروائية يابانية اسمها فوميكو هاياشي (1904 - 1951). اليابان ليست بعيدة جغرافياً فحسب، عن العالم العربي، بل هي بعيدة، كذلك، بالمعنى الثقافي نظراً لندرة الترجمات التي تنقل ثقافة ذلك الأرخبيل النائي إلى اللغة العربية. ثمة محاولات تحاول جسر هذه الهوة، ولعل «سلسلة الروايات اليابانية»، التي تبنتها هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة ضمن مشروع «كلمة»، تعد إحداها. وصدرت ضمن إصدارات هذه السلسلة، رواية «غيوم تائهة»، بترجمة هالة درّوج. عاشت هاياشي في النصف الأول من القرن العشرين. أصدرت عدداً من الروايات والقصص تعتبر، حالياً، من كلاسيكيات الأدب الياباني مثل «ألماس بورنيو»، «زهرة الأقحوان المتأخرة»، الرماد»، «لحم البقر»، طوكيو»، «العنقاء معصوبة العينين»... وغيرها، فضلاً عن الرواية التي نحن في صددها، والتي تعد أبرز أعمالها. وتضاف إلى هذه الحصيلة، التي أنجزتها خلال عمرها القصير نسبياً، مذكراتها التي عنونتها بـ «مذكرات متشردة». صدرت هذه المذكرات في ثلاثة أجزاء، وهي تشير، كما يدلل عنوانها، إلى الحياة الشاقة التي عاشتها هاياشي في كنف عائلة فقيرة؛ كثيرة التنقل. تقر الكاتبة بأن والدها كان بائعاً متجولاً، ووالدتها كانت تعمل خادمة في فندق. وهي، بدورها، لم تنجُ من ممارسة أعمال مضنية، فقد عملت بائعة متجولة في حقول الفحم، وعملت في مصنع لخيوط القنب، وفي كشك، كما عملت كنادلة وممرضة متدربة في مشفى، وكاتبة رسائل في مكتب اعتقال محلي، وموظفة في شركة تجارية. هذه المشاغل المتنوعة منحتها خبرة في الحياة، ودراية واسعة بنفوس البشر، فعرفت كيف توظفهما في سياق قصصها الحزينة. كانت شغوفة بالقراءة، ولعلها كانت تلوذ بالأدب والخيال هرباً من واقعها البائس. شرعت، بداية، في كتابة قصص للأطفال، وحين نشرت مذكراتها، باكراً، على شكل سلسلة في مجلة، لفتت الأنظار إلى موهبتها. وإبان الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها بلادها مدمرة، عملت مراسلة ميدانية. هنا أيضاً أتيحت لها الفرصة كي تراقب عن كثب ظروف بلادها وأوضاع المستعمرات الخاضعة لها، وخصوصاً في الهند الصينية التي تستحضرها في هذه الرواية التي تتقاطع في أجزاء منها مع سيرتها الذاتية. تدور أحداث هذه الرواية في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية وخروج اليابان محطمة بعد أن خسرت الحرب على مختلف الجبهات. لا تميل هاياشي إلى التعمق في غبار المعارك ووقائعها. لا تذهب إلى جبهات القتال كي ترصد «ساحات الوغى»، ولا تأبه بالتحالفات السياسية التي أقصت اليابان عن المشهد الدولي. إنها تتخذ من كل ذلك خلفية هامشية لحكاية تغوص في شرح الوجه الآخر للحرب. الوجه الهادئ الذي يجرح من دون سلاح. الوجه الذي يسلب البشر قيمهم ومبادئهم بعد أن يهدأ دوي المدافع والرصاص. تشرح هاياشي، بلا ادعاء، معنى الخسارة والهزيمة. ترصد تداعيات الحرب في النفوس التي راحت تبحث عن خلاصها الفردي بعدما دمرت الحرب المباني والجسور والطرق والمنشآت، مثلما شوهت الأرواح التي تاهت في غياهب العجز والحرمان والحسرة، تماماً مثل الغيوم التي تتوه في أجواء عاصفة. بنبرة تنطوي على الكثير من الهدوء والشجن، تسرد الكاتبة اليابانية حكاية بطلتها كودا يوكيكو ومعاناتها، وفصول الحب العاثر الذي جمعها مع توميوكا. تعرف الاثنان على بعضهما بعضاً لدى عملهما، معاً، في مستعمرات اليابان في الهند الصينية، وتحديداً في منطقة بالات في فييتنام حيث طبيعة الغابة الساحرة، والنسائم التي تداعب البحيرة، وصوت الطيور وحفيف الشجر. موسيقى الطبيعة الرخية؛ الجميلة حاضرة. لكن هذا الجمال الباهر لم ينعكس في دواخل الشخصيات التي كانت تعيش على وقع الهزائم، وتتوجس من النتائج الكارثية لحرب معقدة. البطلة يوكيكو كانت تعمل على الآلة الطابعة كموظفة مدنية في الجيش، بينما حبيبها توميوكا كان خبيراً في وزارة الزراعة والغابة. عاشا معاً لحظات فرح بدت وكأنها مختلسة من أزمنة القهر والحرمان. تتناول الرواية المحطات المفصلية في حياة يوكيكو بدءاً من وصولها إلى سايغون في فيتنام، ثم عودتها إلى بلادها محبطة، مع صور عابرة من طفولتها وصباها. كانت يوكيكو تعاني فقراً مدقعاً، وجرى استغلالها (جنسياً) من جانب أحد اقاربها من دون أن تقوى على الرفض. وعندما انتدبت إلى فييتنام، وتعرفت إلى عشيقها، شعرت بأن الحياة قد ابتسمت لها أخيراً. لكن ذلك كان محض رغبات وأمنيات. علاقة الحب هذه شابها الكثير من الصد والشكوك والخوف. العاشق له زوجة، وتقرّبه منها كان بمثابة تعويض عن الحنين إلى أسرته. حين تعود البطلة إلى بلادها، وسط سلسلة من الصعوبات والمشقات، بعدما وضعت الحرب أوزارها، تكتشف أن حبيبها قد نكث بوعده. هو لم يكن «وغداً»، بالمعنى الأخلاقي، بمقدار ما كان ضحية لحرب لم تترك أية مساحة للأمل والإخلاص. الجميع منهمك بترتيب أوضاعه عقب الحرب، ولا أمل في حب ظهر في ظروف معقدة؛ استثنائية. ولئن كان الخلاص الفردي هدفاً، فإن يوكيكو وجدت في بقايا ذلك الحب خلاصاً، لكن «الفردوس كان على الناصية الأخرى»، وفق تعبير ماريو بارغاس يوسا. لقد شوّهت الحرب كل شيء، وانتهت بالضياع والموت، كما هي حال البطلة يوكيكو التي رحلت بصمت في النهاية تاركة خلفها أحلاماً لم تتحقق قط. في عنوان الرواية ما يرمز إلى مثل هذا الضياع والتشتت، وإلى المصائر التراجيدية لشخصياتها. لقد تداعت القيم والأخلاقيات في بلد يختنق اقتصادياً، ويعيش تجربة الهزيمة القاسية، وسط شعور عام بالخذلان والمرارة التي راحت تتفاقم وتتوسع. وقد نجحت الكاتبة في تصوير هذا الخواء والإفلاس والعجز، خصوصاً أنها خبرت ويلات الحرب لدى عملها مراسلة حربية تكتشف وتراقب بلا ملل. هذه التجربة موظفة على نحو فني ضمن فضاء هذا العمل الذي يظهر إصرار الشخصية الرئيسة على الدفاع عن حبها ومحاولة استمالة حبيبها الغارق بدوره في الهموم. وسط هذه الأجواء الخانقة، كان لا بد من الكفاح أولاً، ومن ثم مواجهة المصير المحتوم وسط شعور بعدم جدوى العيش، الأمر الذي يدفع «البطلة المهزومة» إلى الإقدام على محاولة انتحار فاشلة كتعبير رمزي عن الاحتجاج. إنه واقع ممزق وقاتم، يتوق إلى الخلاص. كانت اليابان تعيش، حينئذ، مرحلة تحولات عاصفة تستعرضها الكاتبة بلغة صريحة؛ واضحة. تجوب الكاتبة، بعيني بطلتها، تضاريس تلك الأرض المثقلة برائحة النعوش. تسافر إلى المستعمرات اليابانية لتدوّن كل ما يقع تحت بصرها. مفردات الطبيعة المتناسقة تمتزج مع فوضى المدن وصخبها. الهم الفردي يتداخل مع الهموم الجماعية. المشاعر المضطربة تجاور حالات الصفاء والدعة. تقول هاياشي في مذكراتها إن الكاتب أونو كوجي نصحها، حين سألته عن أساليب القص، أن تكتب «بالأسلوب الذي تتحدث به». هذا ما تفعله هاياشي في هذه الرواية، فهي تتحدث بسهولة وسلاسة من دون أن تغرق في الايديولوجيا أو أن تستعير الشعارات الكبرى. هي تكتب بلغة أقرب إلى السيناريو السينمائي. تصف كل ما يقع تحت بصرها، بإسهاب، لتوثّق صورة المجتمع الياباني، وملامح الثقافة المحلية، سواء عبر السرد الذي يشي بحساسية التعبير الأنثوي، أو من خلال حوارات الشخصيات ومنطقها المتناغم مع مستوى ثقافتها وطبيعة مرجعياتها. ونظراً لهذا الأسلوب البسيط؛ الحافل بالمشهدية البصرية، وجدت الرواية طريقها، سريعاً، إلى السينما عبر فيلم حمل العنوان ذاته.