العوالم الطبيعية النادرة للقارّة القطبية الجنوبية التي تضمّ الأراضي الأكثر برودة في العالم، حيث توجد أكبر كتلة جليدية على وجه الأرض، هي موضوع المعرض المدهش الذي يقام حالياً تحت عنوان «القطب الجنوبي» (Antarctica) في متحف «كونفلويانس» (Musée Confluences) في مدينة ليون الفرنسية. وقبل الحديث عن محتويات هذا المعرض الذي يعد حدثا ثقافياً، لا بد من الإشارة إلى أنّ متحف «كونفلويانس» هو متحف جديد، فريد من نوعه بعمارته الحديثة الممتدة على مساحة 11 ألف متر مربع، وهو يضم صالات عرض ينتقل بين أرجائها الزائر ليتعرف إلى مجموعات المتحف التي تروي بأساليب علمية وتعليمية مسيرة الإنسانية عبر آلاف السنين، منذ مرحلة ما قبل العصور الحجرية حتى اليوم. وهو يذكّر بـ «متحف الإنسان» في باريس الذي خضع في السنوات الأخيرة لعملية تجديد ضخمة. من جانب آخر، يتوجّه متحف «كونفلويانس» إلى الكبار والصغار ويعرّفهم بأصول البشرية وتنوع أجناسها وكيفية نشوء المجتمعات معتمداً على آلاف الأحجار والآثار المعروضة وفق أحدث الأساليب المتحفية. وفي موازاة المعرض الدائم، هناك المعارض الموقتة التي تلتقي مع أهداف المتحف وتطلعاته العلمية، ومنها المعرض المقام حالياً عن القطب الجنوبي. أشرف على المعرض، السينمائي الفرنسي لوك جاكيه المعروف عالمياً بأفلامه الوثائقية عن القطب الجنوبي، ومنها فيلم «مسيرة الإمبراطور» الذي حاز العام 2006 على أوسكار أفضل فيلم وثائقي، وقد شاهده أكثر من 35 مليون مشاهد. وفي هذا الفيلم روى المخرج قصة طير البطريق الذي يعيش في القطب الجنوبي مركّزاً على «البطريق الامبراطوري» الذي يعدّ أضخم أنواع هذه الطيور القطبية. المعرض هو خلاصة أعمال حملة استكشاف قام بها لوك جاكيه مع فريقه في قاعدة دومون دورفيل الفرنسية Dumont d’Urville في القطب الجنوبي، وقد استغرقت 45 يوماً تمكن خلالها الفريق من تسجيل لقطات نادرة عن هذه المنطقة النائية من العالم حيث تنخفض الحرارة في فصل الشتاء إلى خمسين درجة تحت الصفر ويستمر ذلك طوال ستة أشهر. في لقائنا مع لوك جاكيه، أثناء زيارتنا للمعرض، تعرّفنا إلى المسار الذي أفضى إلى النتيجة الماثلة أمامنا والتي تعطي فكرة قلّما يعرفها غير المتخصصين في تلك المنطقة من العالم. تحدث جاكيه عن التحديات التي واجهته في تحويل الأفلام والصور التي التقطت خلال الحملة إلى معرض فني يتميّز بأبعاد جمالية وعلمية. فهذا المعرض مخصص لقارّة غير مأهولة ولا تسكنها إلاّ حيوانات وطيور تتمتّع بنظام عضوي يجعلها قادرة على الاستمرار في الحياة على رغم الجليد وسيطرة البرد القارس على مدار السنة. في هذا السياق، أخبرنا جاكيه أيضاً أنّ من أهداف المنظمة التي أسسها، وتحمل اسم «وايلد تاتش»، التوعية بالقضايا البيئية والتركيز على القضايا الكبرى في هذا المجال، مع الدعوة للحفاظ على الجمال والتنوع الطبيعيين على وجه الأرض وكلّ ما من شأنه أن يولّد الدهشة لدى البشر. وقد جاء المعرض المقام حالياً في إطار التعاون بين منظمته غير الحكومية ومتحف «كونفلويانس» في مدينة ليون. من أجمل صالات المعرض تلك القاعة التي تضم شاشات كبيرة تعرض أفلاماً عن طيور البطريق، بريشها الأبيض والأسود، وكيف تتقدّم بحركاتها الآليّة المتمايلة، ضمن مجموعات هائلة عددياً. تقف على قوائمها وسط الرياح أو تزحف على بطونها. ومن المعروف أنّ هذه الطيور تقوم مع بعضها البعض برحلة جماعية تستمر أسابيع طويلة قاصدة المكان ذاته سنوياً على رغم الصعاب التي تعترضها. في المكان الذي تصل إليه، تضع بيضها ويولد صغار البطاريق. تحمي هذه الطيور الصغيرة الآباء والأمّهات، وتتمتّع برعاية خاصة هي التي تساعدها على مواجهة عناصر الطبيعة في حالاتها القصوى. في قاعة أخرى من المعرض، تطالعنا أنواع من الحيوانات القطبية. نشاهد كيف تتحرّك داخل المياه وعلى سطحها، وكيف تحتال على الصعاب الطبيعية التي تواجهها فتتمكن من مواجهة الرياح والجليد وحركة المحيط. كذلك يتيح لنا المعرض التعرف إلى أنواع النباتات والحيوانات البحرية التي تعيش في أعماق المحيط، وهي ذات طابع سحري وتعيد المشاهد إلى لحظة البدايات الأولى، بعيداً عن البشر وحروبهم المدمرة وكل ما من شأنه أن يقضي على معالم الطبيعة وتنوعها. لا تنحصر أهمية المعرض في بعده المعرفي والتوثيقي، وفي إنجازه المتقَن ونقله لمشاهد الطبيعة الساحرة، بل أيضاً في قدرته على التنبيه والإشارة إلى أنّ هذا الجمال الخارق مهدّد، كما أنّ البيئة بأكملها، ومعها الحياة على الأرض، مهددة، أمام استباحة الإنسان لها براً وبحراً وجواً، واستغلالها بطريقة تُستعمَل من أجلها كلّ الوسائل التقنية والتكنولوجية المتقدّمة، بهدف واحد هو الربح. وذلك كلّه وفق منهج متعاظم ومنطق لا يرحم ولا يأخذ في الاعتبار حماية البيئة ولا أثر الاستغلال بصورته المتوحّشة ونتائجه السلبية التي يمكن أن تصيب البشر والحجر، الحيوان والنبات، على السواء.