في علوم العربية اشتهر مصطلح البليغ، وارتبط في أذهان كثير من الناس بفن القول، نثرا كان أم شعرا، وظلت البلاغة مفهوما يستحضره الناس حين الحديث عن الشكل اللغوي الذي يسوق فيه المتحدث حديثه، وينقل عبره همومه وآماله، وبقي للشكل اللغوي، بما يحمله من تشبيهات ومجازات واستعارات وفنون بديعية!، نصيب الأسد في تنزيل وصف البلاغة، وإلباسه لأفراد الناس، ولم ينتقل هذا المفهوم في ظني إلى ساحة الفكر والفكرة، وذا من غرائب الأمور عندي؛ لأن البلاغة في مشهور المأثور مواءمة بين القول وما تقتضيه الحال، وهذا ما يجعل في نظري أهم حقل تتحرك فيه البلاغة ومصطلحاتها هو الفكر وعالم الفكرة، فيصبح عندنا فكرة بليغة، وإنسان بليغ الفكر، وهكذا دواليك. من سمات الإنسان البليغ في هذه العصر أن يتحدث عن الحرية، ويهتم بها، ويعتني بمعانيها؛ حيث إنها مفهوم تطرحه علينا بإلحاح حياتنا المعاصرة، وتدعونا إلى معرفته، والنظر فيه أمة المسلمين تحتاج بلغاء الفكرة أكثر من حاجتها إلى بلغاء القول، وهي اليوم في أمس الحاجة إلى من يُحدثها عمّا يوائم عصرها الذي تعيش فيه، ويكون من شكله، بل حاجتها إلى المفكرين والمثقفين أكثر من حاجتها إلى الشعراء والنثار، وإذا اشتهر العصر العباسي بكثرة الشعراء، وعُرف ذاك عنه؛ فمن المنتظر في هذا العصر أن يكون لدينا مفكرون ومثقفون يُضاهون في كثرتهم أدباء العصر العباسي؛ هذا إن أردنا أن نكون أمة تعيش عصرها، وتنتمي في اهتمامها إليه، وإذا كان ذاك عصر الشعر الذهبي، كما يقال، فليكن هذا عصر الفكر الذهبي؛ إذ تحديات الواقع التي تُواجه المسلمين عظيمة جدا، وما لم تواجه الأمة ذلك بفتح آفاق التفكير، وإعانة أفرادها عليه؛ فلعله يحق لمثلي حينها أن يقول: إن أمة المسلمين في هذا العصر غير بليغة، وما ذاك إلا لأنها لم تستجب لما يتناسب مع السياق العالمي الذي تعيش فيه، وتنتظر من أفرادها أن يكون لهم يد في تشكيل صورته، وبناء ثقافته. من غرائب ثقافتنا أن أضحى من يُحدث الناس بأحاديث مكرورة، وأقوال معروفة، وغاية دوره فيها التذكير وحسب، هو من يوصف بالبلاغة، وحسن المنطق، والفطنة في القول، وبهذا الواقع ومثله تأكّد للناس أن البلاغة شكل، لا علاقة لها بالفكرة المطروحة، ولا القضية المتناولة، وصار المتحدثون عندنا يتبارون في أيهم أمهر في إيصال هذا المعنى المكرور، والفكرة المتقادمة؟ بل انتقلنا إلى شيء أعجب من هذا، وهو أنّ من يُحدّث الناس بغير هذه المعاني، ويريد منهم مثلا أن يسمعوا صوت العصر، ويقفوا على متطلباته، يعد خارج البلاغة، وبعيدا عن الاتصاف بها؛ لأنه _ كما يفهمون من مقالة الإمام علي _ يُحدث الناس بما لا يعرفون، ويطلب منهم أن يُنصتوا إلى ما يجهلون، فكأن الإمام أراد بقوله:حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله أن يظل جمهور المسلمين بعيدا عن واقع الحياة، جاهلا بما فيها!. وإذا كانت البلاغة في مفهومها القديم تدور حول مراعاة القائل سياق من يُخاطبه من أفراد، فنحن اليوم نريدها في مخاطبة أمة، ومخاطبة وعيها، وبهذا تتحوّل البلاغة عندي من كونها مُكملا شكليا في القديم إلى ضرورة حياتية، لا تستطيع الأمة العيش دونها؛ فإما أن تكون خطابات الأمة تراعي مقتضى حال الأمة، ومقتضى الحال العالمية، وإما أن تفتقد صفة البلاغة، وترضى لنفسها بما قاله الشاعر الأول: وما أرانا نقول إلا رجيعا ومعارا من قولنا مكرورا ولست أعرف، وأنا أكتب هذه المقالة، طريق الجمع بين البلاغة بمفهومها المستقر عندنا (مراعاة مقتضى الحال) وبين تكرير الأقوال القديمة، وإعادة الحياة إليها من جديد؛ إلا أن تكون البلاغة تحوّلت على أيدينا؛ لتصبح نصيرا من أنصار التقليد، ووسيلة جديدة من وسائل تأثيله، والإقناع به، بعد أن كانت الغاية منها أن تدفع مراعاتها إلى الإبداع والابتكار. وإذا كان المسلمون يبحثون عن البلاغة في أقوالهم، ويحرصون عليها، ويتمدّحون بها، وهم يرومون مراعاة مقتضى حال سياق ضيق؛ فهم في هذه الأعصار لن يكونوا بلغاء ما لم يؤمنوا بالحرية الفردية التي لا يشهد التأريخ الإنساني على شيء أكثر من شهادته على أهميتها بل ضرورتها، ومما يُساق في هذا الصدد، ويعرفه الناس، أن الحضارة الحديثة قامت على جهود أفراد، خرجوا عن سائد أمتهم، ومألوفها، فديكارت (1596 _ 1650م) لو جرى على مألوف عصره ما استطاع أن يبدع نهجا جديدا في البحث والنظر والتحليل، ولو خضع للسياق العام، الذي كان رجال الدين في فرنسا يعتصمون به، ويدافعون عنه، ورضيه عامة الناس؛ لما قدّم إضافة خدمت البشرية. لقد انتقد ديكارت منطق أرسطو في عصر كان فيه رجال الدين يحرمون على العلماء والمفكرين التصريح بأي نظرية علمية تختلف مع ما تركه لهم أرسطو! حقا لقد كان ديكارت، وأمثاله كثير في أمة الغرب، بليغا في استخدام عقله، وفي حديثه إلى أمته، وإن كان الخطاب السائد في عصره يُحارب خطابه، وينظر إليه بنظرة الريبة؛ إذ كان علماء الدين في السوربون، وأعضاء برلمان باريس، يُقدمون إلى المحاكمة كل من يريد الاعتراض على آراء أرسطو وتراثه. ذلك يكشف عن أن من سمات الإنسان البليغ في هذه العصر أن يتحدث عن الحرية، ويهتم بها، ويعتني بمعانيها؛ حيث إنها مفهوم تطرحه علينا بإلحاح حياتنا المعاصرة، وتدعونا إلى معرفته، والنظر فيه، وإذا كنا نحرص على البلاغة في تأدية معان خاصة؛ فلنحرص عليها في ضرورات الحياة، حيث في مقدور الناظر في الدين أن يجد مداخل كثيرة غفيرة، تدفع به في سبيل تأييد الحرية الفردية، والدفاع عنها؛ لكن شرط هذا هو التخلص من السياق المذهبي الذي عشنا فيه، وطالت صحبتنا له؛ الشبيه بالسياق الذي كان مهيمنا على قوم ديكارت في القرن السابع عشر الميلادي، وجعلهم يعدون ما قاله أرسطو جزءا من الدين؛ مع أن الرجل كان متقدما على المسيح عليه الصلاة والسلام بأكثر من ثلاثمئة سنة!.