كان لضوء الفانوس الخافت وهج كبير في قلوب أهالي القرى القديمة، الذين كانوا يتعاملون مع براءة نوره بتلقائية وعفوية، تجعلانهم يأنسون لصحبته، وهم يحملونه ويسيرون وسط الطرقات، ويسهرون على ضوئه الخافت، ويرتشفون القهوة مع جرعات الذكريات الحانية، كانوا طيبين إلى درجة أنهم لم يلتفتوا إلى خفوت الضوء، ولا إلى بساطة تركيبه وتلقائية دفئه. كانوا طيبين إلى درجة الرضا بقطراته المتناثرة، يبعثرها أينما حل، وهو يركض لاهثاً في أيدي الصغار، الذين كان يروي ظمأهم بصيصُ نوره في الليالي المعتمة، وكأن الضوء قد جاء ليحكي عن مجريات تطور الحياة التي وصلت في حياتنا إلى حدود السطوع، لتتحول ليالي القرى والمدن إلى نهار بفضل سيدة الضوء «الكهرباء»، التي أعلنت طغيانها وبجدارة على كل لحظاتنا، ليعود الفانوس ويسكن زوايا منازلنا خجولاً متوارياً من هجمة الضوء الصادر من تقنياتنا الحديثة، التي أدمنا سطوتها فيظل سؤال الحنين ملحاً على الذاكرة خصوصاً عندما يعود الفانوس ليظهر عملاقاً في احتفائيات ليالي رمضان بعنفوانه المختلف، وتفاصيله البسيطة، يعود في كل عام ليقول لنا عن كل الأشياء القديمة التي نحنُّ لاستعادتها، وكأننا نخرج من «زنازين التكرار»، وثورة التقنية إلى حاراتنا القديمة، التي كنا بالكاد نعرف مواطئ أقدامنا فيها، لنهرب من شراهة الحياة، ونحن نطارد خيوط ضوء كان يلوح في الأفق، ثم ينزوي فلايزال في روح كل منا طفولة الفانوس، وحنين إلى قناديله الخافتة كمواعيد الأسرار، لايزال كلٌّ منا يحمل رغبته في العودة إلى زمن الفوانيس لحظةً واحدةً فقط، يسبح فيها عكس غابات النور، وموجه العاتي، ليتسلى بقراءة معاني الضوء الخافت على لحن عربي قديم استعاد جذوره المقطوعة، وعاد إلى أصل شجرة السنديان، ليجلس في هدوء، ويثرثر عن أيام الطفولة، فلم يكن يعنيني من الفانوس ولادة فكرته في عهد المعز لدين الله الفاطمي في مدينة القاهرة، وخروج الناس لاستقباله بالفوانيس، أو كل الروايات التي تحدثت عن أصل هذا الكائن الحنون، وكل القصص التي تحدثت عن بداية طلوعه في عالمنا العربي، كان يعنيني أن أضع في كل ركن من مساحة أفكاري وبيتي فانوساً خافتاً، يجعلني أجيد قراءة الحكايات القديمة على مهل وسط معزوفات الحنين لأستعيد لحظات لعبي مع الصغار في طرقات قريتنا وذكرياتنا، ونحن نتسلى بضوء الفوانيس، وبطرق أبواب الجيران والهروب خلسة وسط ضحكاتنا الهامسة، ما كان يهمني أكثر الحصولُ على بهجته المؤقتة عندما يعود في ليالي رمضان ليضيء ببساطته ما استقر في وجداننا من أيام الزمن الجميل.